فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

طه حسين: الأبوة والأمومة لا تَعصم الأبَ والأمَّ من الكذب والخداع

"طه حسين": الأبوة والأمومةُ لا تعْصمُ الأبَ والأمَّ من الكذب والعبث والخداع.



حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون يعرفون "طه حسين"، ويقولون إنه (كاتب كبير)، ومنهم من يزيدُ ويقولُ إنه (عميدُ الأدب العربي)، حتى وإنْ لم يفقهوا معنى العبارة!
"طه حسين" يعرفُه أبناءُ وطنه، وأبناءُ العالم.. أبناء الشرق، وأبناءُ الغرب..  يعرفونه مثلما يعرفون الماءَ والهواءَ، ويبدو أنَّ هذه الشُّهْرَةَ الواسِعَةَ جعَلها اللهُ جزاءً وفاقاً على دعوته إلى مجانية التعليم كالماء والهواءِ...! 
رحمَ اللهُ "طه حسين"، وجعله لا يعيش أيامنا هذه، التي صارَ يُباعُ فيها التعليمُ والماءُ والهواءُ!
وفي حُبِّه وبُغْضه سالت أقلامٌ، وأشك أنه سالتْ دماءٌ، ألم يكن هو نفسه عرضةً لأنْ يسفكَ بعضُ خُصومِه دَمَه؟!.. لوْ لمْ يُسافرْ إلى فرنسا، ولوْ لمْ يُبدِّلَ قولاً غير الذي قال في (الشعر الجاهلي)، لقضى كل حياتِه في فرنسا مع زوجته "سوزان"، لا يُغادِرُها إلى مصر أمِّ الدُّنْيا...
أمُّ الدنيا ليست مثل أُمِّهِ، ومُخالفوه ليسوا مثل أبيه، فكيف كانت أُمُّهُ؟.. وكيف كان أبوه؟
لنركب آلَةَ الزمن، ونسافر معاً إلى ماضي "طه حسين"، وننظر في كتابِه (الأيام).
ها نحْنُ ندخُلُ الصعيدَ الأوسطَ المصريَّ، وننزُل بالتحديدِ في قرية الكيلو قريبةً من مغاغة إحدى محافظة المنيا... ها نحن نتوجه إلى بيتِ والده "حسين" الموظف الصغير، البيتُ صغيرٌ ومتواضعٌ، يعجُّ بحركة الأبناء الكثيرين، صبياناً وصبايا.
ها هو طفلٌ نحيفٌ، يتوسَّدُ فَخِذَ أُمِّه، تقْطُرُ في عينيْهِ سائلاً، يبدو من خلال تعْبيرِ وجْهه أنه «يأْلَمُ ولكنَّه لا يشْكو ولا يبكي»... «كانَ يُحِسُّ من أُمِّه رحْمَةً ورأْفَةً».
إنَّ هذه الأمَّ تؤثِرُ ابنَها هذا بمكانٍ خاصٍّ «يمْتازُ من مكان إخوتِه وأخواتِه»، وإنها تُشْفِقُ عليه أكثر مما تشفقُ على أبنائها الآخرين، وها نحن نراها تبْكي، حين اجتمعوا حول مائدة الطعامِ، وأخذَ هو لُقْمَةً «بكلْتا يديْه بدلَ أن يأخذها بيدٍ واحدةٍ، وغمسَها من الطبق المشترك ثم رفعها إلى فمه»... ضحِكَ إخْوتُه.. أمّا هي «فأجهشت بالبكاء. وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين: ما هكذا تُؤخذُ اللقمة يا بُنيَّ..».
ملك جوانِحَنا الفضولُ، وأردْنا أن نعرف سرَّ ضَحِكِ الإخوةِ، وبُكاءِ الأمِّ، وإرشادِ الأب... اقتربْنا من الصبيِّ فاكتشفْنا أنه ضريرٌ !... وقضيْنا ليلةً حزينةً كما قضاها الصبيُّ.
عند الفجْرِ استيْقظْنا على أصواتٍ، من بينها صوت الطفل، وصوت شيخٍ يدعو بالإبريق ليتوضَّأَ، إنه أبُ الطفل، توضَّأَ، صلَّى، قرأَ وِرْدَهُ، شربَ قهوتَه، ومضى إلى عمله...
وأمَّا الطفلُ، فقد مضى إلى الكُتَّابِ، ليقرأ القرآن ويحْفَظَه.
حرَّكْنا آلةَ الزمن قليلاً، وتوقفنا عند شهر رمضان، ونحن ما زلْنا في بيت "حسين علي سلامة"، ورأينا «ألواناً من الطعام حلوةً، ولكنها تؤكلُ بالملاعق»، فكيف يأكلُها الطفلُ الضريرُ، وهو لم يعُدْ يجلسُ إلى المائدة مع إخوته منذ حادثة اللقمة؟.. إنَّ «أُمَّه تكره له هذا الحرمان» فأَفْردت له طبقاً خاصّاً، وخلَّتْهُ بينه وبينه في حجرة خاصَّةٍ... يا لهذه الأمِّ الحنون!
الطفلُ يشعرُ بهذا الحنان، ويعترف لها بهذا الحدْبِ، ويلتصقُ بها أكثر من غيرها، وها نحن نراه يهتزُّ هزّاً عنيفاً حين تُعدِّدُ هذه الأمُّ، ويُبْكيه هذا التعديدُ.
وإذا كان تعديدُ أمِّهِ يأخذُ بفؤاده، فإنَّ قصص أبيه وطائفةٍ من أصحابِه تأخذُ بجماع عقْلِه، فإنَّ أباه وأصحابَه «إذا صلُّوا العصْرَ اجتمعوا إلى واحدٍ منهم يتلو عليهم قصص الغزوات والفتوح، وأخبار عنترة والظّاهر بيبرس، وأخبار الأنبياء والنُّسَّاك والصالحين، وكُتُباً في الوَعْظ والسُّنَنِ».
ولم يكن الطِّفلُ غافلاً عمّا يسمع... ويتكرَّرُ هذا السماعُ في الليل بعد أنْ يصلّوا العِشاءَ، ويُقْبِلُ شاعرٌ ينشدهم أخبارَ الهلاليين والزناتيين...
ندفعُ آلةَ الزمنِ إلى أمام، ونتوقف عند بلوغ الطفل التاسعة من عمره، فنجدُ أنه «قدْ وعى من الأغاني والتَّعْديد والقَصص وشعْر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جُمْلَةَ صالحةً، وحفظ إلى ذلك كٌلٍّه القرآن».
وإنَّ أباه أخذه بشيءٍ من اللِّين والرفق حيناً، ومن السخرية والإهمال حيناً آخر، وهو يتابعُ حِفْظَه لكتاب الله على يدِ "سيدنا"، وكذلك وجد الرَّحْمَةَ والرأفةَ من أُمِّه مرَّةً، والإهمال والغلْظَةَ مرَّةً أخرى، مما جعله «يدْمغُ الاثنيْنِ دمْغاً شديداً»، حتى أنه قال: «الأبوة والأمومةُ لا تعْصمُ الأبَ والأمَّ من الكذب والعبث والخداع».
ولم يكن ذلك كذِبا منهما وعبثاً وخداعاً، وإنما كانت سياسةً، حتى يجعلا منه حافظاً للقرآن، وبخاصَّةٍ حين آنسا منه نبوغاً، ورأياه كثيرَ التطلع، لا يحفلُ بالشيء، ولا يُبالي به، وقد سعدا به أيما سعادةٍ لمّا حفظَ القرآن كلَّه، وصار شيْخاً ولمّا يزلْ طفْلاً بعدُ، فكانا «يكتفيان من تمجيده وتكبيره بهذا اللفظ الذي أضافاه إلى اسمه كِبْراً منهما وعُجْباً لا تلطُّفاً به ولا تحبُّباً إليه».
هذا ما ظنَّه "طه حسين" في سنِّه تلك، لكننا نحن نرى مدى حبِّ أبويْه له، ومبلغ حرصهما على تعليمه وتهذيبه، على الرغم من عُسْرِهما، وبخاصة أنه كان لهما أبناءٌ كثيرون، فقد كان الشيخ "حسين" مُقْتنعاً «بأنَّ ابنَه مُباركٌ، وبأنه أثيرٌ عند الله»...
وسارت (الأيامُ)، وأثبتت الحوادثُ أنَّ ابنَه كذلك.
خرجنْنا من قرية الكيلو، وانطلقْنا بآلة الزمن، إلى (رامتان)، فرأينا "طه حسين"، وقد تقدَّمت به السنُّ، وبدا عليه الوهنُ والضعفُ والنحول، واستمعْنا إليه وهو يسْرَدُ ذكرياته على مسمع سكرتيره الدكتور "محمد الدسوقي"، ومن بين ما قال عن أُمِّه وأبيه:
- مُعْجبٌ بوالدتي كل الإعجاب ولا أستطيعُ أنْ أنساها.
- يا كلب يا ابن الكلب ما عدِّشِ إلا القرآن تقول فيه هذا الكلام الفارغ.

بقلم الكاتب الخضر الورياشي

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد