نزار قباني: أبي وأُمِّي اشتركا في كتابتي.
كتب كثيرون عن الشاعر اللامع "نزار قباني"، وقرأ له كثيرون وكثيراتٌ، ولا يوجد بيتٌ عربيٌّ لمْ يدخلْه أحدُ دواوينه، فمن لم يقرأ له شعر الحبِّ، قرأ له شعر الثورةِ.. ومن لم يقْرأ له هذا وهذا استمع إلى قصائده بأصوات المطربين والمطربات...
إنه شاعرُ الدنيا، وشاعر الحبِّ، وشاعرُ المرأة، وشاعرُ الثورةِ، أحبَّ منْ أحبَّ.. وكره من كره... وهل هناك من يكره "نزار قباني"؟!.. نعم، لكن كراهيتهم تذوب في فنجان قهوة مع حبات سُكَّر!.. وحديثَهم الغاضبَ منهم مغلَّفٌ بورق السلوفان!!
صديقُه الصحفي المصريُّ الكبيرُ "مفيد فوزي" قال: «إنَّ خصومَ نزار ومُريديه لهم درجةُ حرارةٍ واحدةٌ، وخصومُه من أشدِّ قرائه، أمَّا مُريدوه، فلقد صارت دواوينُه، هي هدايا المحبين في المناسبات».
من يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة؟!
حتى الكاتب الكبير الشيخ "علي الطنطاوي"، حين كتب عن "نزار قباني" بأسلوبه الساخر العذب، قال: «طُبِعَ في دمشق كتابٌ صغيرٌ زاهي الغلاف ناعِمُه، ملفوفٌ بالورق الشفاف الذي تلف به عُلبُ "الشيكولاته" في الأعراس، معقودٌ عليه شريطٌ أحمرُ...» (يقصد ديوانه "طفولة نهد")!
من أين جاء هذا الشاعرُ السُّكَّرُ، العريسُ، الشوكولاته؟
منْ بيتٍ دِمشْقِيٍّ قديمٍ، حيث كانت الأرضُ في حالةِ ولادةٍ.. «وكان الربيعُ يستعدُّ لفتح حقائبه الخضراء».. فحملته أمُّه في بطنها، ووضعتْه في فصْلٍ تثورُ فيه الأرضُ على نفسها... فخرجَ إلى الدنيا مثل «عصفورٍ يريدُ أن يجرِّبَ قدرته على السفر، وقدرته على التحدي، وقدرته على مواجهة الريح والمطر»...
وكانت أُمُّه هي الوحيدة التي تنحازُ بصورة سريَّةٍ إلى أعماله التخريبية، وترى فيها نوعاً من (الحداثة). أما أبوه فكان يخشى منه وعليه، ولا يبسط يده له كل البسط، ولا يقبضها عنه كل القبضِ، وعندما عرف أنَّ ابنَه "نزار" يقترفُ الشعر قال لأمِّ "نزار": أخشى أن عفريتاً قد ركب هذا الولد.. فَخُذيه غداً إلى بيتِ أقربِ شيخٍ ليُبَخِّرَه.. ويكتب له حجاباً يَحْميه من زيارة العفاريت..!
قال "نزار قباني" هذا الكلام في حوار بينه وبين "مفيد فوزي"، فهل هو كلام حقيقيٌّ، أم أنه كلام شعريٌّ، فيه تنميق أكثر مما فيه تحقيق؟
فصورةُ أبيه في سيرته الذاتية (قصتي مع الشعر)، يبدو إنساناً سياسيّاً ثائراً، تجعلُنا لا نُفكِّرُ أنه كان يؤمن بالدجل والخرافات، فإنه في بيتهم «كانت تُعْقَدُ الاجتماعات السياسية ضمن أبوابٍ مغلقةٍ، وتوضعُ خُططُ الإضرابات والمظاهرات ووسائل المقاومة...».
وكان هذا الأبُ من طبقة الكادحين، «يستنشقُ روائح الفحم الحجري، ويتوسَّدُ أكياسَ السُّكَّرِ، وألواح خشب السحاحير...» لقد كان يكسبُ رزْقَه بالشرف والاستقامة والخوف من الله. كان يصنعُ الحلْوى، «ويمتهنُ عملاً آخر غير صناعة الحلويات.. كان يمتهنُ صناعَةَ الحريَّةِ.. ويصنعُ الثورة»... أفمنْ كان يقومُ بهذا العمل يرسلُ ابنَه (الشاعر) إلى شيْخٍ ليُبخِّرَه؟
إنَّ "نزار" قال ما لمْ يفعلْ أبوه، وبخاصَّةٍ أننا نقرأ في سيرته الذاتية الثانية (من أوراقي المجهولة)، أنه عندما كان في سنّ الثالثة عشرة، وسأل ضيوفٌ أباه عن اهتمامات "نزار"، وهواياته، وماذا يريدُ أن يكون؟.. أجابهم الأبُ ببساطةٍ: ابني.. يريدُ أن يكون شاعراً...
لم يكنْ أبوه يؤمن بالعفاريت، ولكن آخرين من كانوا يؤمنون بها، ويشيرون على أبيه أن يأخذه إلى أحد الشيوخ الصالحين في حارتهم، وكانت أمُّه هي التي تؤمن بسلطة العفاريت، وتجرُّ ابنَها من يدِه إلى أقرب شيْخٍ!
يجوزُ لنا أن نقول إنَّ أُمَّه هي من كانت تؤمن ببركة الشيوخ الصالحين، ونجدُ شيئاً من السند لهذا القول، حين نقف عند قول "نزار" في حواره مع "مفيد فوزي"، ونقرأ أنه في سنِّ السابعة حين أخذوه إلى المدرسة لأول مرة، لم يبْك - كما هي عادة أغلب الأطفال في هذه التجربة – ولكن أمَّه هي التي بكتْ، «ولوْ أنَّ الإدارةَ كانت تسمح للأمهات بمرافقة أولادهن إلى المدرسة، لما تردَّدت في الجلوس معه على مقعدٍ واحد»!
أمٌّ بهذا الطبع، وهذا الحب الغامر، والقلب الفياض بالخوف على الابن، يمكن أن نتصورها تؤمن بسلطة العفاريت على أبنائها...
في عبارة واضحة قال "نزار" يصف أبويْه:
«هو كان الزلزال.. وهي كانت الحمامة.
هو كان العاصفة.. وهي كانت شجرة الياسمين.
هو كان تشي جيفارا.. وهي كانت مثل رابعة العدوية.
ومن هذا المزيج الذي لا يمتزج.. خرجت أنا...».
كان "نزار قباني" يرى أمه إمبراطوريَّة البيت الذي ولد ونشأ فيه مع إخوته، البيت الذي جعلت منه بُستاناً، وحين رحلت «حملت معها صحائف الفل والياسمين، وأشجار الليمون والنارنج، وسجادة صلاتها، ومِسْبحتها...».
برحيلِها سقطت أعمدة إمبراطورية آل قباني، المصنوعة من الياسمين والعصافير وماء النافورة، لكن بقي عمودُ الشعر، الذي صنعه "نزار قباني" الولد الثاني بين أربع صبيان وبنت.
بقلم الكاتب الخضر الورياشي
إرسال تعليق