القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الثانية في مسابقة فن السرد، الدورة الخامسة
الزغاريد التي ملأت حوش الدار الذي ارتجت أطرافه وصفحته الاسمنتية قد تطايرت من فوقها بعض الحصى الصغيرة؛ التي لم تحسن فندية زوجة سي حسن كنسها بالمقشة؛ التي تضعها بحرص وراء الإجولة المكدسة في غرفة الخزين في أقصى حوش الدار المستطيل، وقد تراكمت أمامه الكثير من الحجارة المرصوصة وقد نبزت من بين فرجها الضيقة أعشاب بريّة بورود متعددة الألوان فترامت بين الأحمر والأصفر والأبيض، وربما هذا الذي جعل الجميع يتركونها على علاتها، وقد اتخذ الحاج سلامة مرتبته الخشبية، وقد تدلى فوقها غطاء أزرق بهت لونه وتمزقت أطرافه ولكنه بقي المكان المفضل الذي يتكور فيه سلامه على نفسه كدودة شريطية وقد بدا التجويف في بطنه عميقاً وثوبه قد بدت تجاعيده، سلامه هو وحده الذي تغير لم يعد كما كان بيده الطويلة التي تميزه وبظله الطويل المعروف برفعه فيخترق الشقوق، سلامه الذي أرهق الكثيرين في معرفة ما الذي ينبشه في جوف الصحراء البعيدة وتبرير غيابه الطويل لأيام وقد تصل لأسابيع؟ الأوراق النقدية التي تدب الحياة في جيبه فجأة وتختفي فجأة لم تجد إجابة عند فوزية زوجته التي لا يحب النظر في وجهها؛ الذي شهد على فترات متعاقبة الكثير من الخطوط الحمراء الدقيقة، والكدمات الزرقاء والبنفسجية التي اختفت في جسدها الممتلئ ولكنها لم تكن لتختفي في وجهها.
بقي سلامه لغزاً لزمن طويل...جلبابه الأزرق لم يتغير، لم يبهت لونه أو تتمزق أطرافه ولم يذكر أحد أنه قد رآه منشوراً على حبل الغسيل الطويل في حوش الدار...بقي دون تعرجات أو انكماشات... ودون رائحة للعرق...جسده رغم نحوله لكنه بقي قوياً لدرجة أنه يحمل إنساناً ممتلئ الجسد ويطيحه أرضاً دون أية مشقة، حتى فوزية لم تستطع الإجابة عن تفاصيل جسده إن كان يمتلك من النتوءات من العضلات أم لا؟ فتبقى صامتة بين الإنكار وعدم المعرفة...
لكنه تغير دون سابق إنذار لم يدر أحد كيف ومتى؟ انطواؤه على نفسه، تكوره على نفسه، بقاؤه ذاهلاً منصتاً لشيء ما لم يعرفوه...كل من في الدار دار السؤال في رأسه وأفشاه لغيره حتى أصبح حكاية تتداولها القرية وليس في الحوش فقط...نسوة الحي قدرن أن مساً قد أصابه، وربما كان ذلك من فعل سكان القبور. لكن أي قبور هذه التي تطويها الصحراء؟
لم يستطع أحد معرفة ذلك...وإن كان سي حسن قد تتبعه مرة حتى غاب في الصحراء ولم يبن، وبقي في انتظاره رغم الخوف الذي ألهب مفاصله، ودبت حمّاه في جوفه، بقي على إثرها طريح الفراش ثلاثة أيام يهذي بما رآه: أنّ الأرواح تنهش جسده، وتعصف فيه ويرتفع صراخه بأنّة خانقة، لم ينفعه شراب الأعشاب ولا قراءات الحاجة فوقية المعروفة بقراءاتها التي تشف الميت فيقوم من ميتته يمشي وكأن بلاء لم يصبه، ولكن حتى هذا لم ينفعه...ثلاثة أيام قاتلة مضت أنت بمجرد دخول سلامه الحوش وكأنه بقدومه أزال البلاء كله.
الديك الذي دارت طقطقة الخلاخيل التي لم تسمع طقطقتها من الطبل والزمر والزغاريد التي أثارتها فوزيه زوجة سلامة من أجله لم يثر سلامه منه بل بقي ذاهلاً منزوياً بنفسه فوق المرتبة العارية عن الحياة في أقصى الحوش...وقد تغير عالمه دفعة واحدة...فوزية بدت أصغر من عمرها بعشر سنوات رغم أنها دخلت في الخمسين، إعوجاج جسدها المكتنز وهو ينحني تارة ويرتفع أخرى مع هزات متواصلة في الصدر لم يلفت الانتباه وحسب بل كثر حوله الهمز والكثير من الضحكات من الجارات اللواتي أتين ليشهدن هذا العرس؛ الذي لم يعرف سببه حتى هذه اللحظة ولكنه بقي حفلاً اقامته فوزية دون سابق إنذار، وهيب وخلوف إلم يعرفا ماذا يفعلان أمام هذا الحشد الكبير من النساء غير أنهما بقيا يرقبانه بعينين زائغتين تتفحصان أجساد النساء اللواتي لم يحرصن في فرحهن هذا إلا على بيان الكثير من فتنتهن، ومع ذلك كانا يختلسان الكثير من نظراتهما المشفقة لجدهما سلامه الذي لم يُعرف إن كان مازال يتنفس أو أنه قد فارق الحياة.....وهما يتعجبان بل والجميع يقف متعجباً لم سلّم سلامه بأمر الديك الشرس...رفيقه دون أن يأخذ برقبة فوزية التي رقصت حتى ثملت بجسدها الثخين ولم يبدو عليه أي حسرة... أ ي غضب...أو أي انفعال لقد بقي على تكوره... كل ما تمكنا من معرفته كما وشت لهما صفية ابنة عمهما حسن بأن جدتهم فوزية تمكنت أخيراً من إمساك الديك الكبير الذي يرتفع بعقيرته قبل شقشقة النور فوق قريتهم، صوته الرفيع يوقظ الميت؛ هذه الحقيقة التي جعلت جدتهم فوزية من أجلها تحاول القبض عليه منذ زمن بعيد، ولكنها لم تفلح؛ فقد كان سلامه يحيط الديك الشرس بحمايته، وقد أعلنها حرباً شعواء بينه وبين كل من تسول له نفسه الإمساك به، كانت آخر مشادة بينه وبين فوزية يذكرها الكثيرون من أهل قريتهم، وقد تدخلت وساطات لحلها، وكثير من النسوة تدخلن لفصل قبضة سلامه عن قشرة رأس فوزية؛ فقبضته تلك لم تترك شعرة واحدة من كومة الشعر التي اقتلعتها يده الكبيرة التي يعرف بها سلامه، والتي تصل إلى أكثر من أربع بوصات والتي لم يعرف بها فقط بل بطوله الفارع الذي أخذ يتقلص وبشكل ملحوظ بعد ذلك الشجار الذي يقال: أن فوزية قد حلفت يميناً بأن تنال منه، وأن تنتقم لنفسها. ففوزية هي أخت وهدان الذي قضى نحبه في مكان لم يعرفه أحد وقد سرت الشائعات فيما بعد أن قضيته لم تكن لسرقته مال العمدة المدعوم من الأمن المركزي بل كان للشائعة التي سرت: بأنه خطف ابنة العمدة التي اختفت حتى هذا اليوم كان هذا لأكثر من ثلاث سنوات، ولم تظهر رغم أن العمدة قد أعلن زواجها من شخصية مهمة سافرت خارج البلاد...غير أن الأغلبية من سكان القرية لم تصدق روايته وبقيت الأقاويل تكبر وتكبر فهم لم يروا اي شيء غريب سوى سيارات الامن المركزي والكثير من البدلات البيضاء...حتى انشغلت القرية بحكاية سلامه وسره المدفون في الصحراء ولم يتمكن أحد من معرفته... فوزية نفسها روجت لهذه الشائعة وقدرت: أن أخاها وهدان ليس بحرامي ولديه الكثير من الأطيان؛ التي ورثاها عن أبيهما الذي مات قبل زمن بعيد وأن موضوع المال لا يمكن أن يكون محل نقاش لديها... أعين النسوة التي لم يبن منها غير شق رفيع مع لوي بشفتين مزمومتين هو رد الفعل الذي لم تره سواه؛ ومع ذلك لم تغير نبرة حديثها القوية ولكن قوتها هذه لم تكن شيئاً أمام هيبة سلامه الذي يغيب أياماً وليال في قلب الصحراء ثم يعود، وما يكاد الصغار أمثال صفية ووهيب وخلوف الذين يعتبرون أنفسهم الجيل الأكبر سناً من الصغار الآخرين أمثال فتحية وفوزي وسليم الذي يتشبثون بأثواب أمهاتهم فهم لا يكادون يعرفونه حتى يغيب ثانية.
زوجة سي حسن ابنه الاكبر الذي يحتل الغرفة الاسمنتية الجديدة قام بإنشائها أربعة من الرجال الأشداء في يوم واحد، كانت أجرتهم رزمة من الأوراق النقدية التي لم يرها أحد من قبل، ولم يرهم أحد من بعد؛ فقد غاب الرجال الأربعة وغاب معهم سر تلك الأوراق النقدية التي لم يعرف سرها بعد ذلك التاريخ ...حتى خطر خاطر انهم من الجان .
أخذت فندية زوجة سي حسن تحلف مئة يمين وهي تنفخ في سرها وتتمتم: دستور دستور... وتصرّ عينيها، وهي تروي كيف أنها رأت سلامه وهو يسير في جنح الليل، وكأن أحداً ما يحثه على السير حتى فتح باب الغرفة الاسمنتية ثم غاب فيها، ولكنها تضرب الكف بالكف كونها لم تعرف متى خرج؛ فقد غطت في نوم عميق، لم تستيقظ سوى على صياح الديك الأجش.
وعندما سألها سي حسن: إن كانت قد عرفت أنه سلامه أم لا؟ ترددت في الإجابة فمرة أجابت: أنه هو... ومرة أجابت: أن الليلة كانت مظلمة فلم تستطيع بيان وجهه ولكن قدرت من طوله أنه سلامه فمن غيره؟! ولكن في النهاية استسلمت لدموعها وأنها مهما فعلت فلن يصدقها، وبعد أن راضاها بليلة لم تنسها، وبعدها أصبحت لهما الغرفة الاسمنتية، لم يكن أحد يعرف لم بنيت ولمن؟ ولكنهما كانا من أشد المراقبين لبنائها حجراً حجراً فهما لم يريا كما الآخرين الاسمنت الأخضر هذا من قبل، ولم يعرفا أنهما سيملكان غرفة مثل هذه دون غيرهما ويعيشان كما هو حال أهل المدينة...
وغاب السؤال : من أين؟ بين الكثير من الأسئلة وقد كان أهمها: لم لم يسكنها سلامه وفوزية؟ بعد ذلك التاريخ بخمس سنوات تغيرت حال سلامه؛ أصبح يغيب كثيراً، أكثر من المعتاد ربما أشهراً أو أقل بقليل، ويأتي صامتاً عابساً ساكناً لا يلوي على شيء...
صفية أقسمت لوهيب عندما غصبها أن تجلس في حضنه في غرفة الخزين، وهو يقبلها قبلاً ساخنة ويتحسس جسدها الصغير، هي لم تكترث لكل ذلك بقدر ما كانت تهوى أن تروي له الكثير من القصص كحديث سلامه مع الجن...لم ترتعش يدا وهيب بقدر ما أنه ضمها إليه ضمة كادت أن تأخذ بأنفاسها.
الصرر السوداء الصغيرة التي عثرت عليها فندية زوجة سي حسن في كل أنحاء البيت أصابتها بانهيار عصبي، وبصراخ متواصل لم يتمكن أحد من إسكاتها أو إخماد ثورتها التي وصلت للعراك بالأيدي وإمساك الشعر
بينها وبين فوزية التي بدت اصغر عمراً من فندية، وأقوى رغم سمنتها وجسدها ذي الارتجاجات المتلاحقة، وعمرها، لكنها لم تستطع التفريط بسيطرتها على الدار والحوش فإن رضخت لزوجة ابنها؛ فهي ستنتهي لا محالة، وستبقي على صورة خائبة لفوزية ترثها بناتها أنعام ورتيبة وسنية ويضعفن أمام أزواجهن ...لكنها عندما جلست على خناق فندية منتصرة فكرت : من أين لها بهذه القوة التي لم تكن تملكها منذ خمس سنوات؟
شيء ما تبدل... شيء ما دخل جسدها لم تعرفه رغم أنها تعرف حق المعرفة؛ أنها قد جرعت سلامه منقوعاً من الزرنيخ طيلة خمس سنوات، ولكنه لم يمت حتى اليوم، و بقي ماثلاً أمامها كعملها الردي...
ولكن ما الذي تجرعته هي من يديه؟ ربما منقوعاً منً شراب الجنيات أو ربما ماء الشياطين؟! هي لا تعرف بالضبط ما الذي حدث لها، ولكنها تعرف ما الذي فعلته مع سلامه الذي بقي دون أن ينطق بكلمة واحدة؟! فقط يضمر جسده يوماً بعد يوم...
كثير من الاشياء تغيرت كالديك الشرس الذي بقيت عمراً وهي تتحين الفرصة لاقتناصه لأنه فقط في حماية سلامه وثد تمكنت أخيراً من النيل منه، ورقصت لما ذبحته رقصات جنونية ...
لم يطل الأمر حتى اكتشفوا أخيراً أن سلامه قد مات، لكنه لن يتمكنوا من دفنه بأي حال من الأحوال، طراوة جسده وارتخاؤه حتى يظن الواحد منهم
أنها ستنخلع من مكانها، ورائحته القاتلة التي انتشرت كالطاعون في أرجاء القرية، ما تمكنوا منه هو إلقاؤه في منقوع من مزيج نادر درسته فوزية في إحدى وصفات الحجابين الي سمعتها يوماً ولكنها لم تعرف متى؟.
السحابة الممطرة التي روت رأسيّ فندية وفوزية لم تنبت زرعاً، الحيرة التي داروا في ساقيتها جعلتهم أشبه بالأغبياء... تحت ضوء السراج في الغرفة الاسمنتية امتدت أخيلتهم في الشقوق الرفيعة التي تسطحت في الجدران، وبدت وكأنها ستسقط على من فيها في أية لحظة، ولكن دون أن يعترف أحد، وبخاصة سي حسن الذي لن يفرط بما اكتسبه من سلامه حتى وإن سقط فوق رأسه، وحتى ذلك الحين فلكل حادث حديث.
رائحة البخور لم تكن لتغير من حالهم البأس شيئاً، وكأن باباً من أبواب الجان فتح عليهم ولن يغلق أبداً، رائحة سلامه التي أخذت تزكم أنوفهم لم تجعلهم يفكرون سوى بالمزيد من الليمون وورق الغار وماء الورد وعطر الست العذراء؛ ليجعلوه فوق جسده المنقوع في حوض صغير كانت فوزيه تنظف فيه الحمام المذبوح أو الدجاجات، ولكنه اليوم اتسع لجسد سلامه الذي ميزه جسده، ويده طيلة سنوات مضت الريح التي مرت عليهم، وهم في ذهولهم وأطفأت فتيل السراج اجفلت قلوبهم، وسرت ارتعاشة الخوف، والظل الطويل الذي مرّ فوق الجدار أمامهم من النافذة الصغيرة العليا في الغرفة الاسمنتية، وقد انكسرت لتظهر يداً طويلة أمامهم تحركت ثم ما لبث الظل أن انسحب ببطء؛ وأعينهم قد تعلقت فيه، وقد فغرت أفواههم عن شهقة عظيمة أتبعتها كلمات صفية المبعثرة : إنه... إنه سلامه.
لم يستطع أحد الخروج إلا بعد أن شق الضوء فوق الحوش دون أن يصيح الديك، بعضهم حبا على أربعه وبعضهم بقي ظهره محدودباً مع تشنج في الساقين، وبعضهم بقي مكانه كما هو حال فوزيه التي تبعثر كل ما فيها، حتى خافت أن تتساقط كسفاً... قامت فبقيت تقرأ في سرها ما تعلمته لفك السحر...كانت تعرف تماماً ما الذي فعلته!
عندما علت الصيحات أدركت أن سلامه قد اختفى، ربما حملته الجنيات، وربما الشياطين، وربما لم يكن ميتاً، وربما ذلك المنقوع ...لقد تذكرت أن سلامه هو الذي أوصاها يوماً بوضعه فيه، وقد قرأه على مسامعها على أنه من تعويذة أحد الحجابين...كيف نسيت أمراً خطيراً كهذا؟ ...وهو الذي كان له أثره في أن يعود إلى الحياة...ومع ذلك لم يكن هذا ما يقلقها ولم تستطع من اجل ان تبتلع ريقها أو أن ترطب شفتيها المتيبستين...
لم يكن هذا ما يهمها؛ فهي ستعدُّ الأيام بحرص شديد هذه المرة...
فهو سيعود ليقتنص منها ؟! لا بد من ذلك...
بقلم الكاتبة رولا حسينات/ الأردن
اللوحة للفنان العالمي إدفارت مونك، وتحمل اسم "صرخة"
إرسال تعليق