I القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة فن السرد، الدورة الخامسة
بقلم القاص المبدع زايد الرفاعي/ المغرب
لوحة من لوحات بيكاسو |
"في المقهى ذات يوم أشقر"
أجلس كعادتي، في مقهى "لاپيرلا" بالطابق العلوي قرب النافذة، من خلال نظرات مسروقة أتسلل بخطى لص متخصص في سرقة التحف إلى عالم الشقراء التي على يميني، التي بدت كمومياء عينها مستقرة إلى ما يبث على الشاشة، لم أنتبه إلى ما على التلفزيون إلا من خلالها، حين ثار هدوؤها بتفاصيل جسدها النحيل الممشوق، منتفضة بصوت ناعم يقطر غنجا وميوعة، ويدها اليسرى تعيد خصلات شعرها الأشقر إلى الخلف، قائلة: " no shiiit ".
وبالرغم أن الدراسات تثبت أن الشقراوات أكثر عرضة للسرقة!
إلا أني أعلنت لحظتها ثوبتي، فهي تبدو ثائرة، والثائرات ما خلقن إلا ليفصلن ربطة العنق عن البدلة القبيحة الوارية خلف كراسي اللصوص.
أعدت عيني إلى مكانها أو بالأحرى إلى مكاني، وتساءلت؛ ما الذي يكون في التلفاز قد أغضبها...؟
أجيب نفسي مضطرا بالبحلقة عن ما يجول في التلفاز، لأني نادرا ما أشغل نفسي بهذا الجهاز، خصوصا بعد أن أصبحت أطلع على كتب الفرنسي "بيير بورديو" فألفيته صدفة ينعته ب ( الشيطان الناطق ) فزاد قناعاتي على ما كانت عليه.
لا بأس سأنظر إلى ما أزعج شقراء المقهى ولوث بعض مزاجها.
أنتبه إلى الشاشة، عصام الشوالي بنبرته العصامية وصوته الجماهيري المحبوب يعلق على إعادة لضربة جزاء ضائعة من قدم " كريستيانو رونالدو ".
أضحك في صمت و أعتقلها بإبتسامة مصطنعة، لكنها تصر أن تفضحني، فخشيت أن لا أتمالك نفسي وأنفجر ضاحكا فيبدو شكلي غريبا بين رواد المقهى، اضطررت إلى أن أتظاهر بأخذ "سيلفي" حتى أطلق سراح ابتسامات مبالغ فيها دون أن ينتبه أحد.
أنظر إليها حينا وإلى مراواغات فريق ( ريال مدريد ) حينا آخرا، وأخاطب نفسي، من متى أصبحت النساء من عشاق كرة القدم؟
لا..لا.. لا أظن، ذات اليمين هذه بخصلاتها الصفراء وتسريحتها العفراء، لا يليق بها أن تكون متتبعة لكرة القدم حتى ولو كان الفريق ملكيا.
أيعقل أن تكون لا تعي شيئا في اللعبة المستديرة، وأن تركيزها تماما كالأخريات كان فقط على اللاعب رقم سبعة.
أي نعم، هذا ما في الأمر، قد تكون عاشقة لكريستيانو دون فريقه، ويا ليتها تعشق لعبه.
مهلا، ما شأني بها، إن كانت شقراء أم شعرها أحمر، أو إن كانت تشجع ريال مدريد أو فريق برشلونة، أو حتى عاشقة لرونالدو أم ميسي.
فضولي أنا فوق العادة، كم سيلزمني كي أقاوم هذه الصفة التي لازمتني منذ أن أضحيت طالبا في سلك الصحافة.
أحول نظري عنها ببطء شديد، في الطريق إلى موضعي يستوقف نظراتي "البريئة" منظر طبيعي فيه جل الألوان ما عدا اللون الأخضر، هكذا منظر نادرا ما تأنسه في إحدى مقاهي حينا.
ربما كان هذا سر استقرار عيني دون إذن مني على ساق فتاة لا يظهر منها سوى ساقيها البيضويتين الموضوعتان على شكل -الساق فوق الركبة- لا يظهر منها سوى دخان سجارة ملتهبة، و أقل من نصف وجهها الذي تحجبه عني بتلك الجريدة التافهة المضللة! -أقصد إسم الجريدة- وكذا فستان أميري من طراز آخر صيحات الموضة.
الحاجب أضحى حاجبين بعد أن وقف أمامي صديقي المثقف، ولولا أن الصفة هنا شرط وشرف ما قلت عنه ( النادل )، لأنه صديقي ورفيقي في الحي، و زميلي أيام الثانوية، والجوهر لأنه رمز للمثقف المعطل.
ااااه من وطن يقدم شواهدا لأبنائه ليزج بهم في غياهب المقاهي، وطن يمنح شواهدا لتمسح بها موائد من لا شواهد له.
يقبل علي بإبتسامته الوسيمة، يفصلني عن جغرافيا الطبيعة الملتهبة، وكما ألفنا أسأله عن أهله، يسألني عن حالي، نتحدث، نضحك قليلا، يضع مشروبي الذي يجلبه كلما لمحني دونما أن يسألني، صديقي ويعلم مشروبي المفضل.
يصافحني ويعود إلى إتمام عمله.
وما إن بلعته آخر درجة، حتى نظرت بخلسة إلى قارئة الصحف..!
وجدتها عدلت من جلستها، أقصد من ساقيها، فأصبحتا بطريقة هندسية كشبه منحرف، والسجارة لازالت ملتهبة، دخانها يتطاير ما بين جريدة بيضاء وقهوة سوداء.
أدندن مع نفسي قائلا: لعلها عاهرة، أي نعم، تبدو بائعة هوى.
لكنها تقرأ..!!
ونحن تعلمنا في مناهجنا العفيفة أن من تدخن عاهرة، والعاهرات لا تقرأ.
هنا؛ تذكرت خالي الذي يعمل بالإمارات، حين قال لي يوما، "(بائعات الهوى) لا يقرأن شيئا بإستثناء قيمة الأوراق النقذية،
العاهرات يا زياد ينجذبن لكل ما هو حديد، ينجذبن فقط لما كتب بحديد وعن حديد، تذكر ذلك جيدا، أو من الأفضل أن تنسى فالذكرى وقوع وأنا لا أريدك أن تقع".
دون أن أنظر لها أو إلى شكلها أردد، ( لكنها تقرأ ).
أحس برغبة الإختلاء بذاتي، رغبة ملحة للكتابة.
فالعلاج بالكتابة مهنتي وموهبتي، هي الكهف الذي ألجأه حين تتمزق أجوائي، والمعطف الذي يلبسني حين تتجهشني برودة الملل والرتابة.
اللحظة دون إنذار مسبق أتذكرها!
كم أكره الغياب حين يتحول حضورا بلا إذن، لاسيما إن كان الحضور حضورها -حبيبتي الخائنة-.
أتأهب لدخول حالة ثنائية، ليست انفصاما إنها الرغبة، زهاء حالة التوحد والتصوف.
فأضع أمامي سمرائي التي تذوب في أحشائها قطعتين من السكر إلى جانبها العلبة الخضراء، بين الفينة والأخرى سأمد يدي إلى النعش الأخضر لأوقع على شهادة الإنتحار البطيء بإشعال النار في إحدى حبيباتي محافظا على طقوس عقائد الإدمان.
وحتى لا أشعرها بالألم وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة أنادي سمرائي لكي تقرأ عليها بعض تعاويذها المرة.
أنتقل إلى المساحة الفارغة بينهما إلا من قلم أحمر متعطش لممارسة الحب مع الورقة البيضاء العفيفة العذراء التي لم يمسسها قلم من قبل.
وحتى أكسر غطرسة صمت الورقة وأملأ بياضها ضجيجا، حملت قلمي وساعدته على فض بكارة أسطرها، معلنين بكل ما أوتينا من حروف وكلمات، عن مدى إشتياقنا إلى سنوات الطهر والعفاف..!!
ثم بدأت بالبوح والإعتراف بما وقع وبما أوده أن يقع.
إرسال تعليق