القصة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة فن السرد، الدورة الخامسة
شجرة صندل
هوت ...؟
أو
ارتمت ...؟
أم
سقطت ...؟
عليَّ ...مني ...فيَّ ...؟ّ!
لم أعرف إن كنت ملقىً أو معلقاً .. أم محلقاً ...
إنما كانت شظاياي/ الفروع تؤلمني،توجعني أجزائي المبتورة ، لكأنها ما زالت فيأماكنها متصلة عصباً .. عصباً ..
***
و تسقط الفأس على الأغصان الخضراء الممتدة في كل الاتجاهات مرة .. ثم مرة إلى مالا يعد من الغضب .. و التَطيُّر .. و الجنون .
عند الحد ، كان يقفُ .
و بين ما هو له و ما هو لي ، حصلت المجزرة .
- هذه الأرض لي . قلتُ .
= لكن الشجرة لي . قال .
- إذن .. خذ شجرتكَ .
و جُن الدم في العروق حتى انفتحت الشرايين على الأوردة .
***
على هذ الغصن المتفرد كان أبي يعلق أرجوحة طفله البكر ، بينما هو يوزع قضبان الدبقكي تَعْلق عليها عصافير الصيف التي أشبعها التين و الصبار، فسَمُنَت و صارت وجبةمشتهاة .
***
الفأس تضرب بتواتر متسارع على الغصن ...
و هوى ...
ارتمت صورة الأرجوحة ..
و سقط صوت نوسانها في الصمت .
***
أبي الذي غادرني ذات ربيع عاصفٍ ، لم يترك لي وقتاً كي أخبرَه أنني لم أصبح رجلاًبعد ، لم يثخن لحائي كهذه الشجرة .
و لا يبدو أن الصلابة ستمسني بعده .
رغم كل ما منحني إياه ، رغم كل ما كان يبدو أنه يغزله فيَّ كحبل الشعر الذي ربط بهمقعد أرجوحتي ، إنما لم أمتن كما وجب .
ذلك المساء ....
تركت جسده الذي برد فجأة – مستلقياً هناك – و هرولت إلى هذا الجذع الثخين العالي .
أسندت ظهري إليه ، و ألقيت عليه رأسي ... بكيت .. وبكيت بل أجهشت . و لم أكتف منالنحيب بعد .
قبل هذا اليوم بأعوام كثيرة .. وفي نيسانات الربيع ، كان يجلسني في هذا المكان تماماً...
يجمع لي كماً كبيراً من تلك الديدان المخملية الأنيقة التي يتداخل فيها الأبيض و الأسود.... البني و الرمادي ... و تكاد تبدو السعادة ليست بأكثر من رؤية ديدان الربيع و هيتزحف رويداً .. رويداً .. مغادرة كفيَّ الصغيرين مدغدغة بشرتي الغضة ، و أنا أضحك وأضحك و أضحك .
***
الفأس ما زالت تطرق .
و بُعيد خطوات هناك .....
هوى ..
ارتمى ..
سقط ..
الفرع الأكبر من الشجرة ، ذلك الجزء المُطل على حقل الزيتون .. ما عاد مطلاً .
و كلما وقع الفأس على الغصن ، كان يُخيل إلي أن أوراقه التي تتلامس تُقلد صوتي ، أوأنه هو صوتي الذي حفظَته يعيد و يكرر كل ما قرأته من صفحاتٍ في كتب الجامعة هناتحت ظلها ..
كل ما أسمعتها إياه من قصائد حفظتُها .. أو كتبتها .. و كل الأغاني التي كان يصدحبها صوتي النشاذ ... المطروب .
هوى ..
ارتمى ..
سقط ..
الغصن المحلق في أعالي الشمال .
حين كانت تهب عليه الريح .. ينتشي و تتصافق أوراقه معلنة أوان البرد .
لكأنه حفظ لحن صوت أبي منادياً : أن تعال .
هناك ..
كان يتكور صغيراً في حضن أمي ..
يثغو فرحاً بوجودي ..
ينظر إلي .. كما لو كنت مارداً بينما هو عقلة الإصبع .. أشده من يده .. ليلعب معي .. يبتسم .. يمسك بيده الأخرى ياقة رداء الوالدة .. ثم يفلتها ليركض خلفي .. يتعثر .. يقع.. أهرول إليه .. أرفعه عن حصى الأرض .. أطمئن على سلامته .. ثم أجري ..
لكأنه ...
صوت أبي الذي ينادي عندئذ من تحت غصن الشمال القتيل .. حين تعالى دخان الحطبالمشتعل .. و فاحت في الأجواء رائحة شواء طيور السُمن ..
فنتسابق إليه .. و نجلس على ركبتيه ... ليملئ فاهينا بالطعام ... كفرخي نسر.
***
هوى ..
ارتمى ..
سقط ..
نحو الغرب ذلك الغصن .. كان يئنُّ ..
نعم أَنَّ .. حين تلقفته الأرض .
سمعته .. سمعتُني ..
كان يعرف .. يعرفني .. لمَّا اجتاحني حبها في ذلك الأيلول .
و كم هَبت ريح الغرب على قوافي قصائد الحب – التي كتبتها على مرآه هناك لها – فاصطفت على إيقاعات صفق الورق و صك الغصون و هبوب الهوى .
آنها .. كان الحب يسري في كلينا .. أنا بسببها .. و هو بسببي .
لكم تستر على لقاءاتي العابثة .. أو الحنونة ..
و كان شاهداً على انبثاق براعمي .. و ازهراري ...
مثلما هو شاهد على يباسي و انكساري .
و هنا عند هذا المَطَل ... اكتشفت الله ............ كله.
عرفت المؤمن فيَّ .. الكافر القابع داخلي ..
بعثرت متناقضاتي .. لم أواجهها .
هنا احتدمت صراعاتي .. العاشق و الحاقد .. العابث و الملتزم .. المحب و الكاره .. الصامت و الصاخب ..
هنا كنت استكشف نفسي و أتركها كما هي .
الآن :
أعرف أني ما فعلت ما وجب علي فعله ، كي لا يسير صدام التناقضات بي إلى ما أناعليه .
***
الجذع الثخين للشجرة ..
كتاب تاريخي ، محفورٌ عليه .. كان محفوراً عليه ..
اسمي .. اسمه .. تواريخ ميلادنا .. أسماء حبيباتنا .. أولادنا المفترضون ..
ولكل منا مكانه على طرفي الجذع ، لكل منا ذاكرته ...
و الفأس تسقط على الجذع الثخين ....
و تسقط ..
و تطرق .
هوى .
ارتمى .
سقط .
تدحرج و تدحرج .... بعيداً .. بعيداً .
***
من هنا .. الآن :
تبدو قاحلة تلك التلة / حياتي .
لكأني .. هناك أقتعد أرومة الجذع ..
لكأنه... صوت أبي الشجي يؤذن في عصبي السمعي .
و ثمة ألم يطعنني .
لكأني ...
بقيت .. هناك .. راكعاً .. واضعاً جبيني على يدي ..الملطختين بالنسغ الأحمر فوق نصلالفأس المقلوب المضمخ بعطر الخشب المقطوع ..
و يضوع العبق .
***
هامش :
شجرة الصندل من الأشجارالمعمرة ربما ما يفوق الألف عام نسغها لونه أحمر معتقةكلها بعبق يعطر حتى الفأس التي تضربها.
الكاتبة : نجود حسين - سورية
إرسال تعليق