I النص الفائز بالمرتبة الرابعة لمسابقة فن السرد في القصة القصيرة
للمبدع مؤمن سمير عبد الرحيم من السودان
الوحدة
مَرَّتِ السنون، لازالت تَمُرُّ؛ ما زلتُ أقبعُ في هذه الغرفة. غرفة كبيرة، مربعةُ الشكلِ، تحتوي على نُسَخٍ كثيرةٍ مِنِّي، الصغير منها والكبير، مَنْ عمره مئة سنة ومَنْ تجاوز الألف. بها الكثير مِن الألواح الخشبية بعضها فوق بعض فِي ثلاثة جوانبٍ، فِي كُلِّ جانبٍ خمسون لوحاً. الجانب الأخير به بابٌ قديمٌ، عتيقٌ، صَدِئٌ. ليس لها نافذة. يدخلُ الهواءُ عبر فجوةٍ صغيرةٍ، موجودة أعلى السقف، حَدَثتْ إِثر عاصفةٍ قويةٍ رجَّتِ المكانَ، لم تتحملْ الغرفة القديمة، يبدو أَنَّها آيلة للسقوط.
كنتُ جالساً فِي أعلى لوح، سقف الغرفة فوق رأسي مباشرة، أمامي ذاك الباب الصدئ، لا أعرفُ أين تقع هذه الغرفة؛ بيتاً أم متحفاً؟ إِنْ كنتُ في متحفٍ لِمَ لا أرى زوَّاراً. إِنْ كنتُ فِي بيتٍ أهو مهجور؟ بعض الأحيانِ أسمعُ صدى أقدامٍ قادمةٍ مِن بعيدٍ، هذه الغرفة معزولة عن باقي المكان، فِي آخر المبنى، لا! بل تحت الأرضِ؛ فأصواتُ الأقدامِ تكونُ أحيانا فوقي، إِذن أنا تحت الأرض! مدفونٌ هُنا؛ أَمِتُّ يَا تُرى؟ لِمَ لَمْ أُكَفَّنْ؟ كيف يُمكنُنِي سماع تلك الخطوات وأنا مَيِّتٌ؟ كيف يُمْكِنُنِي أنْ أُفَكِّرَ؟ يكونُ الميتُ على عِلْمٍ بِمَا حوله. إِنْ كنتُ مَيِّتَاً لِمَ لستُ وحدي؟ أشباهي هنا كثيرون، أعمارهم تفوقني بعشرات العقود. أهِيَ مقبرةٌ جماعيَّة؟ إِنْ كانتْ كذلك، وهذا اللوح الذي أَتَمَدَّدُ عليه هو قبري؛ إذن أين المَلَكان؟ ليتهما هُنا يسألانَنِي ويُخْرِجَانني مِنْ وحدتي.
لستُ مَيِّتَاً، وحيداً فِي هذه الغرفة مع أَشباهِي، مجتمعون، ووحيدون! يجب أنْ أخرجَ مِن هذا المكان التعيس، أُفضِّلُ الموت على البقاءِ هُنا، كيف سأخرجُ؟ جئتُ إلى هذا المكان وعمري يوماً، الآن أُنَاهِزُ الخمسة عقود، لا أدري كيف صبرتُ كل هذه المدة.
رائحةُ الأتربة تعيقُ أنفاسي، بيوتُ العناكبِ أصبحتْ فِي ازديادٍ، تتساقطُ فوق رأسي كالمطرِ، كلما ابتنى عنكبوتٌ بيتاً لا يبقى سويعات حتى يسقطُ فوقي مباشرة، يرمِي الابن والديه بعد قتلهما، يهدمُ البيتَ، يبني بيتاً آخراً، يجدُ عنكبوتاً يتكاثرُ معه، ينجبُ أبناءً، يتقاتلون، يهدمون البيتَ، تستمرُ نِزَاعَاتُهم طوال السنين، إِنَّها بالفعلِ أوْهَن البيوتِ، المسكنُ كاملاً أوهن مِن بيوتِهَا؛ بما أَنَّه لا يأتي أحدٌ إلى هُنَا.
كُلُّ هذه السنين أنظرُ إلى ذلك الباب اللعين؛ على أمل أَنْ يُفْتَحَ. كنتُ فَرِحَاً حين أتيتُ إلى هُنا، ليت أَنِّي لم آت, ليت أَنِّي ذهبتُ إلى بلدٍ آخرٍ. أَذكرُ حين وُلِدْتُ أتى بيّ شخصٌ إلى هُنا، يتكلمُ العربيةَ. كان صديقي لكنه سرعان ما تخلى عَنِّي، تركني فِي هذا المكان الموحش، ليت أَنِّي لم آت معه، ليت أَنِّي ذهبتُ مع الرجل الآخر! كان يريدُ صداقتِي، لم أزل أذكر شِجَارَهُمَا عَلَيَّ. سمعتُ أَنَّ أمثاله مِن تلك البلدان يأخذوننا مِن مكانٍ لآخرٍ، يشتروننا بأغلى الأسعارِ، يقيمون لنا المزادات، يتبادلوننا بأثمن الأشياءِ، المفضّضة، المُذهَّبَة والماسيّة، أَمَّا هُنا فلا يرانا أَحَدٌ. لا يفيدُ الندمُ، أعلمُ أَنَّ الاغترابَ أصبح مستحيلاً؛ لكن عليَّ الخروج مِن هُنا حتى إِنْ مكثتُ في هذه البلدة، عَلِيَّ أَجِدُ فيها مكاناً أفضل.
كيف لِي أَنْ أَخرجَ مِن ذلك الباب الذي لم يُفْتَح لسنواتٍ طِوالٍ، لا أستطيعُ الحِرَاكَ، تَخَلَّتِ الجُرذانُ عَنِ المكانِ، لا يوجدُ سوى العناكب، أأستعين بِها؟ سأطلبُ مِنها أَنْ تُكَوِّنَ شبكةً طويلةً مِن الخيوط أَتَنَقلُّ فيها حتى أصل إلى تلك الفوهة الموجودة على السطح. إِنَّها تكفي لعبور جسدي النحيل مِن خلالها، وعندما أَصِلُ إليها أرمي نفسي مِن فوق إِلى الخارجِ، سيكونُ ذلك مؤلماً، قد أفقدُ بعضاً مِن أجزائي؛ لا يهم إن تألمتُ، فقط أريدُ الخروجَ، عندها سيراني أحدُ المارةِ، ويصطحبني معه. هل سأجدُهُ؟ مَنْ يهتمُّ لأمري ويوجدُ هُنْا مِن أمثالي، مَنْ عمره ألف وأربعمائة سنة، لا يأبهون لأمرِهِ. يا لتفكيري السيئ! لا يَصِحُّ أبداً أنْ أُقارنَ نفسي به، لم أقصدْ ذلك، تفكيري هذا نابع عن حزني عليه، عن يأسي مِن الخروجِ، هو أولى مِنِّي بذلك، أحق بصداقةِ العالم كله، بعد ذلك أُفَكِّرُ أنا فِي مُغادَرِةِ المكانِ.
يبدو أَنَّنِي سأبقى هُنا، لا فائدة مِن الذهابِ لأي مكانٍ، سأظَلُّ منتظراً ناظِرَاً إلى ذلك الباب على أمل أَنْ يدخلَ أحدٌ ما مِنْه؛ ويُخْرِجُنَا مِنْ عُزْلَتِنَا.
إرسال تعليق