فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة فن السرد


مجلة فن السرد


 القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة فن السرد
بقلم الكاتب المبدع سفيان البراق من المغرب

"خلفَ جدارِ المعاناة"

رغم أنَّ الجميع تقريباً كان يَستبطِئ وصولَ سيارة الإسعاف، ويستنكرُ محتداً هذا التباطؤ، فقد كنتَ أنتَ أيضاً تتأمَّلهم صامِتاً، لا مُستنكِراً ولا ساخِطاً، ورِجلك ممدودةٌ أمامك، لا تقوى على تحريكها، لأنَّك كنت تدري مُسبقاً أنَّ سيارة الإسعاف حتى لو حضرت في الوقت المُناسب، فالطبيب لن يحضر في الوقت المناسب، ولو حضرَ الطبيب في الوقت المناسب، فلن تحضر العدّة، ولو حضرت العدّة في الوقتِ المُناسب، فلن... المهم أنَّك كنت تحدِسُ بفطنتِكَ التي فطرتك عليها، أنَّ حياتك توقَّفت هنا، تماماً في تلك اللَّحظة التي صدمتك فيها تلك الشاحنة المخيفة. كنتَ تحدس بقدرٍ هائل من الألم الممض، أنَّك لنْ يُكتبَ لك السير كما كنت. حتى لو كُتِبَ لك العيشُ طويلاً وسِرت فوق الأرض فلن يتأتى لك ذلك قبل سنة، بعكّازة أو عكَّازتين. المهم أنَّك لن تعودَ ذلك الحصان الذي كنتهُ. تفيقُ في الرابعةِ صباحاً، وتسعى في طلبِ الرزق، فتملأ سوق الجملة بجريك وصراخك، ومشاكستِك، وتملأُ كيسكَ مما جادوا به من خضرٍ وفواكه، وجيبك مما جادوا به من نقود، قبلَ أنْ تعودَ في منتصفِ النهار إلى البيتِ منهكاً. 

أخيراً حضرت سيارةُ الإسعاف، تصرخُ وتُولوِلُ، كما لو كنت أحد أبنائها أو أحد إخوتها، فأفسحَ لها المُتجمهرون الطريق، ومنهم من يأسف ومنهم من يَستنكِر. 
وحين وقفَ صاحِباها بجانبك، يَتأهبانِ لحملك، نظرتَ إلى أحذيتهم، وددت لو أنَّهم يتركونك متمدداً كما كنت. كنت قد بدأت تستأنِسُ بالأرض حينَ صدمتك تلك الشاحنة العوراء، صرختَ من الألم كوحشٍ كاسِر اخترقهُ سهمٌ مسموم. صرختَ ثم صمتت متمدداً كميّت، والآن يقتلعونكَ منها، كما اقتلعتك حادثةُ اليوم من جحيمِ يوميك. أخذوك. حملوك إلى السيارة الصفراء، ذات العويل البغيض. حملوك ووضعوك في قلبها وأنتَ صامت، ساروا بك وأنتَ صامت. وحتى حينَ استفسروا عن هويّتك، اكتفيت بالإشارة بسبّابتك إلى حافظةِ أوراقك التي تضعُها عادةً في جيب سروالك، تماماً فوقَ المؤخرة. فلم يكادوا يُخرجوها من جيبك حتى كادَت أنْ تُزهقَ روحك من الألم دون أنْ تنبس. فبِالله عليك: أيُّ بشرٍ أنتْ، وأيُّ كائنٍ أنتْ. أنتَ جدارٌ من إسمنت مُسلَّح بيدينِ ورجلين ورأس. اليوم، اليوم ميلادُك الجديد. 
اليوم تبدأُ حياتُك الجديدة. آهٍ. لو أنَّ هيكلَ الموت ذاك أمهلك بعض الوقت. لو أنَّه صدمَكَ بعدَ بِضْعِ سنين، ثلاثة أو أربعة على الأقل، لكنتَ قدْ أمَّنت لابنتك البكر قُوْتَها حتى تستيطعَ أنْ تعمل، حتى تستطيع أنْ تُعينك على إمداد جيشك، فيه من يمشي على اثنتين، وفيه من يمشي على أربع. جزاكَ الله شرَّ الجزاء أيُّها السائقُ المَلعون. لقد دست على قلبٍ يَضُخُّ الدماء في أجسادٍ كثيرة، لقد خنقت بيديك أرواحاً كثيرة. 

تحاول أنْ تتخيلهم الآن: ها هي أمهم قد أخرجت أغطيتهم وفراشهم لتنشُرها تحت أشعة الشمس، وها هم قد خرجوا للمدرسة أو الكُتَّاب ليدرسوا، بعد أنْ تناولوا إفطارهم. وليس في أذهانهم عنك الآن إلاَّ كونك تعمل، تحملُ السلاسل الثقيلة، وتَنقلها من الشاحنات إلى أماكن البيع. في حين أنَّك مكوّم كالهم الثقيل الذي يعتصِرُ قلبك الآن بإحدى ردهات قسم المُستعجلات بمستشفى لم تعرِفْهُ من قبل. وضعوك، رَموك، لا فرق... المهم أنَّهم نسوك... سمحوا فيك. 

يجبُ على الآلام التي تنهشُ جانبك الآن أنْ تستوعِبَ عمليةَ مجيء الطبيب في مستشفياتِ المخزن. إن الطبيب هنا، هو كلُّ شيء، رغم أنَّه لنْ يفعلَ شيئاً. فهو لم يأتِ إلاَّ بعد أنْ جاءت زوجتك وابنتك الكُبرى، وجلستا بعد أن بكيتا ما شاءَ لهما سائقُ الشاحنة أنْ تبكيا. ثم دخل مكتبهُ ومكثَ فيه حتى خيّل إليك أنه لم يأتِ بعد، ثم ألقى أوامِرهُ بتهييئك وتخديرك، إلى أنْ وجدتَ نفسكَ ببيتكَ ممدوداً، لا تَقوى على الحركة، والبيتُ من حولك مملوءٌ عن آخره، نسوةٌ هنا ورجالٌ هناك، والصبية الصغار يذرعون البيت جيئةً وذهاباً، ويملأونهُ صراخاً وعويلا. لكنك تنظرُ إلى أبنائك فقط، فأنتَ من اليوم فصاعِداً واحدٌ منهم، وعليهم أنْ يتعودوا على رؤيتك صباحا بجانبهم، كسيراً مقهوراً؛ فأنتَ الآن تملكُ جسدك وروحك، ووقت العالم. أنتَ من اليوم لا حاجةَ بالإسراع في فعلِ شيء وأيُّ شيء؟. 
أنتَ الآن آلةٌ مُعطلة، رُميّت بعد طول وسوءِ استخدام. أنتَ الآن، بكبريائك وأنفتِك، تطلبُ من صغيرك بخوفٍ واحترام أن يُساعدك على حلاقةِ ذقنك، بأن يقبض أمامك المرآة الصغيرة التي في بيتك. أمَّا حين تريدُ أن تقضي حاجتك، فتلك مأساة أخرى يعلمُ الله وحدهُ كم أحسست معها بالضُعف والخذلان... وما أكثر مآسيك. كنت تقول لابنك الصغير: "ابتسم للحياةِ تبتسمُ لك". ولكن أنتَ ابتسمتَ لها فرمتك بحجارةٍ هشَّمت أسنانك. 

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد