فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

النّاجي الأخير من الموت | ملاك عويديدي

 القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الثانية في مسابقة فن السرد في دورتها الثانية

"النّاجي الأخير من الموت " بقلم المبدعة ملاك عويديدي من تونس
مجلة فن السرد

بدأت القصّة في وضح نهار دافئ، في يوم هادئ، وسط ضجيج الشّاطئ، بين لعب الصّبية بالرّمال وركوب القوارب، حين لمحت موجة قادمة متخلّفة عن صويحباتها، تصحو وتندثر وتعاود. وكأنّ صويحباتها يسخرن منها يسارعنها، يتعالين يرتطمن بالنّاس ويستلقين على الشّاطئ. وهي ترى الشّاطئ بعيدا وما هو ببعيد، وترى الأفق كبيرا وما هو بكبير.. كانت تنظر بحزن. وكانت تلك الثّواني المعدودات تحاكي عمرها. ظلّت متأرجحة بين فورة الألم وثورة الأمل. تتآكلها المياه ويناديها وحي الإله.
كانت الموجة تلتفت يمنة ويسرة غير بعيد عن ناظريّ. تسابقها الأمواج وتجتازها وهي لا تموج. تنظر إلى سخرياتهنّ وتبسم يائسة. تبحث في معنى الحياة. أين هي من هذه اللّحظة الّتي تعيشها. إنّها تتصاعد من قلب البحر في خفاء، وتعبث على سطح الماء في خيلاء. تمرّر الأعشاب ولا تلقطها ولا ترسلها. تخاف قوّتها، وجبروتها يخوّفها. لا تتحرّك في موقعها. لا تموج في البحر. لا تثور مع هيجاته. ينظر النّاس إليها وينتظرون صويحباتها ليلعبوا ويتراشّوا.
ما هذا الخوف الّذي يحكمها من غير غاية. والفراغ الّذي يعمّها يجرّها إلى النّهاية. هل ستقضي عمرها في الخوف والتّهرّب. لم لا تتمسّك برأي وتستيقظ من طفولتها، من موجة ضعيفة. لم لا تخوض مغامرة تسطّر بها حياتها. هي مغامرة جميلة رائعة مدهشة. ماذا لو خرجت عن المألوف وعاشت معنى السّموّ نحو السّماء، نحو بيض الغيوم وذهبيّ الرّمال.
وبدت كأنّها تتمايل وتدندن مع النّسمات الّتي تهدهد سطح البحر: ليس لي ما أضيف إلى هذه الرّقعة.. وما من شيء يتمسّك بالحياة.. ليس لي ما أضيف وقد خلصت الطّبعة.. وكلّ شبر أذهبه يميل في خطاه.. هل أفل نجمي في صفاء البحر وتبعثر.. هل يصحو نغمي من الظّلمات ويتحرّر.. إنّي أغنّي للموانئ للسّماء للبشر.. تنام عند قدميّ الرّمال وتأسرني روح لا تذر.. وحولي الموج يلاحقني وأنا أموج في هواه.. فهلمّ لي أخدم هواي وأكون أنا الموج في بهاه.
جنّ اللّيل ولم تدركه. أوشكت الاصطدام بقارب متأرجح وسط الماء، اختبأت حذوه. سمعت أصوات مناوشات: نساء حبالى ورجال يلطمون وجوههم:
-أنا أفضل منك حالا.. مع أنّنا في الهمّ سواسية.. ارتكبت خطيئة شنيعة وسأضع حملي قريبا. إنّني أفرّ من أعين النّاس وألسنتهم. سأحصل على الجنسيّة الإيطاليّة لي ولمولودي.
-ربّاه اشهد على حالي. أودّ تركيب طقم أسنان لأبي. أودّ أن تعالج أمّي آلام ظهرها وركبتيها. أودّ لو أهرب من الفقر المدقع حدّ النّخاع وجمع المال الكثير.
-وهل تظنّ أنّ روما ستستقبلك بالأحضان وهل تحسب عملك بانتظارك، وأنّ باب مكتبك مفروش بالورود.
-يا شباب إنّ تلك الملايين الّتي جمعناها لذلك اللّعين مقابل هذا المركب المحفوف بالمخاطر، كنّا لنصنع منها مشروعا يسدّ الحاجة ويبارك الله فيه بالخير الكثير. 
-إذا ما عملت نادلا في مقهى سأتقاضى أجرا لن أتقاضاه عمري بشهادة الهندسة الّتي أحملها.. في وطننا نفقد حقوقنا.. لا نعمل ولا نسافر ولا نأكل ولا نلبس. نموت في سبيل الحصول على رخصة مشروع. 
-أنت الغبيّ من أصرّ عليّ بالمجيء. قلت سنسافر حول العالم دون تلك "الفيزا" الّتي افتكّها منّا الوطن. تبعتك وطموحي لترميني في عرض البحر. سألكمك لكمة قويّة.
صاح صوت مستغيث:- ما هذا إنّ ''الشّقف'' يميل بنا. يحمل فوق طاقته أضعافا. سنهلك لا محالة. أين أطواق النّجاة ؟
-لقد رماها كلّها ذلك اللّعين.. قال ستخفّف من وزن المركب.. سيغرقنا .. الويل له.. انظروا إلى الأمواج القادمة.. ااا سينقلب بنا..
التفتت الموجة خلفها فرأت بنات جنسها متسارعات ضاحكات، يتقاتلن عساهنّ يظفرن بالشّبّان الوسيمين. وخفتت الأصوات الصّارخة. وطافت جثث هامدة.. وغاصت أخرى في المقبرة.. تحسّرت الموجة، لا تستطيع نقلهم. جثثهم ثقيلة جدّا. وأعدادهم كثيرة جدّا. وحقيقتهم المرّة هي من تشهد عليها. عليها إخبار أمّهاتهم الثّكلى. تحاملت على نفسها وهي ترى مقصّ الموت يحوم حول المكان يقطع رقبة كلّ من يعترضه. كان يترصّدها فهي وحدها من نجت من فيه.
أفاقت الموجة من غفوتها صباحا وقد قاربت الذّوبان وبدأت تعلو وتتعب وتحاول وتجاري وتأمل. جارت الموجة مسارها وصويحباتها منهكة. ولاحت بذهنها تشجيعات والديها تصمّ آذانها عن سخرياتهنّ وكلّ صور الجثث والموت تلاحقها لتريها طريقا واحدا ترسمه وتحدّده. ثمّ هاهي تصحو من جديد وتكبر وترتفع وتشمخ برأسها ثمّ تسقط وإذا بقوى خفيّة قويّة قادرة تمتدّ إليها فتتجمّع من جديد وتصل متثاقلة. تهافت جمع من الرّجال إليها يضربون الماء بأرجلهم. شعرت الموجة بثقلها حين اقتربت من الشّاطئ. إنّها تحمل غريقا متشبّثا بقدميها. فرحت واعتلت وترامت على الشّاطئ متحدّية الجميع إلى بعيد الرّمال تلوّنها ببصمتها، وتلامس ببرودتها قدمي طفل صغير يلعب فيرتعش ويبسم. وتنتهي تلك الموجة على ضحكة طفل صغير. وكأنّ كلّ حياتها كانت لأجل تلك الضّحكة، فتحيى بها وتحيى فيها.

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد