فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...
Unknownيقول...

Exceptionnel 🤝❤️❤️
الأستاذ ديالنا

القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة فن السرد الدورة 2

  "مرافئ الوجع" القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة فن السرد في دورتها الثانية
بقلم الكاتب المبدع الحسن ايت العامل من المغرب
مجلة فن السرد


مرافئ الوجع
غائبون عنا؛ حاضرون فينا.

حِينما غَرَسُوا جَسدَهُ في القبر، أَحسَّ به ضيّقا، وبِصدرِه أكثر ضيقا حَرجًا كأنما يَصَّعَّدُ في السماء. لم يرتَح أبدا. لذلك قرّر الخروج من القبر، والعودة إلى بيته. لكن المُشكلة تكْمُن في عَسَسِ القُبور؛ فهم لا يَترُكُون مجالا للأموات للخروج إلَّا لِمَاما. ثٌم إنّ هذا الخُروج يَكُون في فترات محددة بعينها، وهي في الغالب الأعمّ وسطَ الليل.
لقد أَلِفَ فضاءات رَحْبَة ومشرعة على جميع الاتجاهات. أما الآن، وبعد أن كَوَّمُوا جسده في هذه الحفرة، لم يَعُد يَتَمتّعُ بتلك الامتيازات الدُّنيوية؛ كَأَنْ يَرتَشِف كُؤوسًا من القهوة في محلات ومقاهي عديدة، وكأنْ يَنْتَقِي سيّارة الأجرة في الشارع؛ كَونُه يَكْرَه سيارات الأجرة القديمة، وكأنْ يُغيِّر الحَلّاقَ كُلما أحسَّ بِتَدَنِّي خِدمته، وكأنْ يُمزِّق كتابا لمْ يُعجِبه، وكأن يَصرخ في وجه مسؤولٍ أمام وزارة يُمثلها، أو يَرْأَسها..
ولمَّا حُرِم من كل هذه الامتيازات، وأحسَّ بجسده يتآكل كل دقيقة، ويفقد نظارته، ويختلط جلده بالتراب، وبِالدُّود يَسْري في عُروقه عِوض الدماء، مَرَقَ من قبره بِقوة دون أن ينظر إلى الخلف، وأقْفَلَ، بسرعة البرق، إلى بيته. 
مرّ ببعض الأَحْيَاء، وقد أدْركَ أنّ الكفنَ يُعرقله إذْ يجري، لذلك خلعَه، وبَقِي عَاريًا كما ولدته أمه. وكان الناس، إذ يمرُّ بهم، لا يعيرونه أدنى اهتمام لمنظره. لا يستغربون لِعُرْيه، ولا من التراب الذي غَزَا سحنة وجهه، ولا من شروده وتيهه المبالغ، وسرعته إذْ يَسْرِي. وحينما مرَّ بالقُرب من أعمدة إنارة باهتة، أدْرَك أن الدود يتساقط من جسده المتآكل، ومن مَسَام جلده، ومن كل الثقب.
اشتاق لزوجته ولعتابها الغزير. لذلك قرر التوجه إليها دونما مضيعة للوقت. لكنه تذكر جارته القديمة الضاوية العوجة، التي لا يَغْمَضُ لها جَفْن حتى تَتَقَصّى أخبار الدّربِ كلِّها؛ أخبارَ الحمقى والمغفلين، والسَّكارى والعاملين. إنها نارٌ لَا تُبقِي ولا تَذَرْ، وشيْطانٌ يُدَوِّن كل أفعال القَاطِنين بالدَّرْب. لذلك، ولكي لا تَعلم الضَّاوِيَة العَوْجَة بعودته من القبر، قَرّر أن يَتَسَلَّل إلى الدرب، ثم إلى المنزل كالطيف، أو كقطة سوداء لا تُرى في العتمة. 
لما بلغ رأس الدرب، أخفى جسده في العتمة، وتسلل عبر زقاق ضيق حتى بلغ بيت زوجته. طرق الباب حتى كلّ مَتْنه المتآكل، نادى بصوت خافتٍ حتى لا يسمعه الجيران ويقذفون زوجته، أو يتهموها بالزنا مع الغرباء، لكن لا أحد رد عليه السلام. أحس بعياء شديد، وبشيء من الدوخة؛ فجوفه لم يستقبل الطعام مُذ دخل إلى القبر، بل يحس، الآن، أن الدود يمزق أحشاءه.. ما تبقى من أحشائه!
ولما لم يجد جوابا لندائه، تذكر الأيام الخوالي التي كان يأتي فيها إلى البيت، وحينما يطرق الباب ولا تجيبه زوجته، يدرك أنها خرجت للتّسوق، أو لزيارة جارتها، أو أمها في الدرب المجاور. ثم إنه يضع يده في موضعٍ أسفل الباب، فيُخرج "الساروت". فقد أخبرته زوجته أنها ستضع له المفتاح في ذاك الموضع كلما خرجت لتقضي حاجة. ولكي لا يبقى في رأس الدرب، ويقال عنه وعنها، ويصبحا موضوع نقاش "المداويخ"، اختارا هذا الحل.
في تلك اللحظة، التي لم تفتح له زوجته الباب، فكر وقدر أن زوجته قد تترك المفتاح في ذاك الموضع، فربما يعود من قبره، أو قد تعود روحه فتعانقها. لكنه استبعد الفكرة. فأن تترك المفتاح هناك، يعني أن زوجته قد أفشت السر؛ سر المفتاح، وأن رجلا آخر في حياتها حلّ محله، وجرى مجرى نفسه.
وكم كانت صدمته حين تبادرت إلى ذهنه كل هذه الأفكار السوداء، وغرس يده المتآكلة الأطراف أسفل الباب، واستخرج المفتاح.
من هول الصدمة، سقط جزء من يده. أدخل المفتاح وعالجه بصعوبة بالغة. ولج، وليته لم يفعل. توجه تلقاء المطبخ، تناول ماءً باردا، وفتح الثلاجة وتناول بعض الفواكه. وبينما كان يأكل، كان يحس بالدود يأكل بشراهة لحمَه. "زيد الما؛ زيد الدقيق" هكذا قال في قرارة نفسه.
انتصب في مجلسه واتجه تلقاء غرفة النوم. وجد جسدين متلاحمين في لحاف واحد. عاد نظره عند باب الغرفة فرأى حداءً جلديا أنيقا لرجل ما. جال ببصره الضعيف في الغرفة فلمح بدلته الزرقاء الرسمية معلقة بالمنضدة. لا شك أن هذا الذي يرقد في مضجعه يستعملها بين الفينة والأخرى. 
أحسّ "بالشماتة"؛ لأنه قدّم الغالي والنفيس لزوجته؛ سهر الليالي، وعمل في الليل والنهار، في القر والحر، حتى يسعدها. وها هي، الآن، تتخذ بعلا بعده، وهي التي حلفت بأغلظ الأيمان، ووضعت يدها اليمنى على المصحف وقالت: "لن أكون لرجل آخر بعدك حتى إن فرقنا الموت".
تذكر تلك الجملة، وسالت عيناه بدموع حارة ممزوجة بالتراب. مرق من الغرفة واتجه إلى المطبخ حيث كان يخفي مُدية طويلة يذبح بها أضاحي العيد. وجدها حيث تركها. استخرجها بعنف، والدموع سائلة. عاد إلى الغرفة، تقدم ببطء شديد، لكن الحداء عرقله، فسقط. تقلب الجسدان في الفراش، وشخيرهما مبثوث في الغرفة. 
وحينما سقط، حمل الحداء بيده، وتأمله، وإذا يتذكر أن صديقك المقرب يملك مثله. ثم إن ذاكرته أسعفته حين اكتشف أن الجوارب التي قربه لصديقه أيضا. ورغم ذلك، فقد لاَمَ ذاكرته وكل عضو في جسده؛ لأن صديقه أهل للثقة.
ثم إنه لما اكتشف كل هذا، خارت قواه وخانه الجهد، وما تبقى من شدة في عظمه، فبدأ يزحف على ركبتيه ويديه حتى بلغ حافة السرير. نظر إلى أشيائهما المترامية: ملابس داخلية لزوجته، ملابس داخلية لغريب؛ ساعة يد مذهبة اللون، خاتم من ذهب مغشوش، هاتف يشبه هاتف صديقه!
تناول الهاتف بأصابع يده المتبقية، فتح لوحة المفاتيح، تفقد "أجندة" أرقام الهواتف، وجد رقمه موسوما بـ"الميت". فرح حينما اكتشف أنه يتصل به وهو ميت. ردد في قرارة نفسه: "لا شك أن صديقي اشتاق إلي، واتصل بي كم مرة ليطمئن عليّ. فهو يدرك أنني حي بينهم..".
لكن صديقه لا يتصل به ليطمئن على حاله، بل ليتأكد أنه ميت، وغير موجود في المنزل حتى يخونه في شرفه.
ألقى بهاتف صديقه، وحمل هاتف زوجته. تفقد الرسائل التي تستقبلها. لاحظ أن رقم صديقه مطرد في الرسائل، فملكه الفضول لاكتشاف. وما إن شرع بفتح الرسالة الأولى حتى ذرفت عيناه مجددا.
اسمع أيها القارئ العزيز: أنا السارد، وهنا سأصمت؛ فأنا لا أستطيع أن أقرأ هذه الرسائل بصوت مكشوف، ولا أستطيع أن أخبرك بكل شيء حول خيانة هذا الصديق لصديقه؛ لأنني إذا فعلت، فستشك في كل أصدقائك، وستشك في زوجتك إذا كنت متزوجا، وإذا لم تتزوج بعد، فأخشى أن تُهمل الفكرة وتطرحها جانبا.
أرجوك أيها القارئ. أعني على مساندة هذا الرجل الملقى قرب حافة السرير. فهو لا يتصور هذه الخيانة المزدوجة، ولا يتوقع أن توجعه الحياة. كان عليه أن يبقى في قبره، وينام قرير العين. فأعِنِّي على إرجاعه إلى قبره.

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد