" كن كيف شئت فما الدنيا بخالدة ولا البقاء على خلقٍ بمضمون"
الشريف المرتضى
كان متوقعا أن أزف إليك روحا وفكرا وقلبا، كان مقدرا أن أهديك جسدي الذي حَرَّمْتُهُ عليك وحَرَّمْتَهُ على نفسك كل هذه السنين الطويلة، حَرَّمْتُ عليك فاكهة جسدي التي كانت تتوق لأن تُقضم من خلالك، أن تُعصر بيديك، وأن تُكرعَ في كأسك فتنتشي الخمرة، قبل انتشاء المخمور...
فعلت ذلك، مع أن شوقي لك دائما كان لاهبا، ورغبتي المجنونة في ضمك، في شمك، وفي التماهي فيك، لم تخمد نيرانها يوما، كنت، أو لنقل، كنا نؤجل كل هذا ليوم زفافي بك، زفافي إليك، واقتراني بالحياة. وآه، آه كم كانت نشوتي بذلك مسكرة، حارقة ومدوخة... لكن، ويا للْوجعِ، لا شيء من ذلك تحقق، ولم أعد أشعر بشيء سوى الفراغ من بعد ما رفعت السماعة ذلك اليوم وأجريت تلك المحادثة القصيرة، القصيرة جدا، والذابحة:
- آلوهناء
-آلو، نعم هناء، من معي؟
-أنا عايشة أم أحمد
-مرحبا بك، خالتي عايشة، كيف حالك؟ خيرا إن شاء الله
- هناء، أردت أن أخبرك...
دموع، شهقات، وصوت مشروخ، من كثرة البكاء...
- أن أخبرك...
- بماذا تخبريني خالتي؟
- أخبرك بأن أحمد...
تشنج، هستيرية ألم، جبال من الخيبة والحسرة، كان صوت عايشة ينزُّ وجعا، وكأنه عين انبجست من باطن الأرض، فوارة...
-أحمد مات يا هناء، مات وهو في طريقه إليك، لقد تحطمت الطائرة التي كانت قادمة من باريس إلى الرباط...
"أحمد مات". هي آخر جملة سمعتها، وبعدها ما عدت أفقه شيئا، ما عدت أسمع أو أبصر أو أحس شيئا... وكيف لإنسان فقد الحياة أن يحس بالحياة؟
واهمون من يظنون أن عبارات التعزية تعزي فعلا، وأن جمل المواساة تواسي حقا، واهمون، ويُرجِفون بما لا يعلمون. إذ كيف لجملة "البقاء لله" أن ترجعك لي، وأنا التي كنت أعرف الله بك، وفيك، كنت أعرفه من خلالك...
يا ناس، كيف لجملة "عليه العوض" أن تنسيني ألم فقدانك، ومن ذا يعوضك، من ذا يعوض الحياة إذا ماتت الحياة في الرحلة –الطائرة- القادمة إليك، لكي تزفك...؟
مِتَّ، واعتبرت موتك خيانة لي، نعم حبيبي، كان الأجدر بك أن تُموتني قبل ذلك، كان عليك أن تقبلني، أن تضمني، أن أقطف ثمار شفاهك التي أسقيتها بأحلامي، وأن تجعلني أنام، ولو مرة يتيمة، على صدرك المعشوشب...
كان عليك أن تأخذني معك، لنكمل رحلتنا سويا... لكنك لم تفعل، لأن الربان غفا، وآه لو علم الربان كم قتل من حُلُمٍ، من هدف، وكم جَزَّ من بساتين السعادة التي رعيتها وتعهدتها بالشوق والإخلاص والانتظار... أنا التي انتظرتها لأكثر من خمس سنوات. وفي غفوة واحدة، وحين أوشك موسم الجني، جنيتَ أيها القدر الغادر على حبيبي، وعلى دنياي، وصيَّرتني أرملة بلا زواج، ثكلى من غير أولاد، وعطَّلت اللبن الدافئ في صدري لطفلين سميناهما ذات لحظة حالمة في رحاب الجامعة، سميت ابننا عمرا، وسميت أميرتنا نضال، وها هو نضال العمر راح، وترك في القلب أخاديد دمع وجراح...
رحت يا أنا، فيا زمن هل لك من وجع إضافي، هل لازلت تخبئ في مستودعاتك الضخمة من ألم، أطعمني إياه، ألقمني إياه. فكل فقد بعد فقد الحبيب ليس بموجع وكل مرتع سوى صدر الحبيب ما اتخذته مرتعي...
يا أيها القدر الغادر، سرقت حُبِّي، سرقت حِبِّي، فهلا أكملت دورك وعطلت ضربات قلبي، وسرقت نفسي وألحقتني بدنياي، ها أنا أفعل كل الأسباب. أقتني تذكرة، أجمع حقابي، أستقل طائرة، وأسافر إلى باريس، فيا قدر اجعل الربان يغفو، كما غفا مع حبيبي، لكي أحيا، فبعض الموت حياة، وبعض الحياة.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق