المبدع عيسى ناصري |
1
هل راودَتْك يوما فكرة أن تكتب عن شخص سخيف تعرفه، فإذا بك تراه أمامك واقفا بلحمه وشحمه؟!
هذا ما حصل معي صباح اليوم. كنتُ أكتب قصّة عن الشاعر النّابغة الذي جمعتني به ثلاثة لقاءات في المقهى. لقاءاتٌ مشهودة يَنْدَى لها جبين الشعر. وأنا جالسٌ في ركني الأثير أحتسي قهوتي، منكفئا على مفكّرتي الصّغيرة أكتُب، داهمَني صوتٌ أجشّ بتحية الصباح، لم يكن إلّا صوته.
2
عندما جلس إلى طاولتي بمقهى "الرّاحة"، لم يكن لي مزاج لسماعِه. أدركت حينها أنّ خلوتي الصّباحيّة ضاعَتْ، وأنّ قهوتي سيَشْربها إذا لم أطلبْ له فنجانا كما فعلتُ في اللقاء الأول والثاني. أدركتُ، وهو يسترخي على الكرسي إلى جانبي، أنّه سوف يدخّن أربع سجائر على حسابي، تماما كما فعل أمس وقبل الأمس وقبل الذي قبله. وفوق هذا كلِّه سوف أضطرّ إلى سماع ثرثرته عن الشّعر وتفاهة الشّعراء في هذا الزمان!
جاء كعادتِه، مُحَمَّلا بمجَلّات وجرائد تضمّ مقالاتِه "النّارية" كما وصفها، ومعه كُتب أخرى، ونُسخٌ من ديوانه اليتيم بعنوانه الفريد "شاعر مِن القَمر". كان يحمِلُ كُلّ هذا وهو يدخل المقهى بشموخ وكأنّه رسول الثقافة الكونيّة. بمجرّد أن استقرّ به المجلس، سحَبَ، كعادته الفنجَان من أمامي. ارتشف منه حسوة، ونادى على النّادِل ليأتيه بأربع سجائر. أشعل السّيجارة الأولى، فأطلق عنانه لحديثه الأثير: الشعر والشعراء. تَراهُ وهو يتحدّث بكلّ وجهه، ويمطط الحروف، فينفتح فمه عن آخره لتبرز أسنانه التي خُرِّب جزء مِنها، ولهاه المجوّفة مِثل مغارة. ورائحة فمِه امتزج فيها التّبغ ورائحة الثوم والبصل. لا يكفّ عن فتح مغارته لترديد جملةٍ صارت بِتَكرارها لازمته: "إنّ الشعر شيء عظيم.. شيء عظيم". مع توالي السجائر استَمَرّ في لَوْكِ موضوعات شتّى. تكلّم عن قصائده، وعن استعاراته التي دَوّخَتِ النُّقّاد. تكلّم بزهو كبير، مشيدا بعبقريته وفحولته الشعرية وعلوّ كعبه في المجاز. تدفّقت ثرثرته كسيل جارف، وبين ثرثرة وثرثرة، يتفَضّلُ ويقرأ لي مقتطفات مِن ديوانه، أشعار لم تكن هي الأخرى مُجرّد ثرثرة مطبوعة لا عُمق فيها ولا خيال.
3
كُنتُ أنشغل عنه حينا بالكتابة. أتركه يتحدث وأنا أكتب، وأكتفي بتحريك رأسي، كنتُ أكتب. أكتُبهُ، بخِفّة. أنقل عالَمه "القمَريّ" اللّامِع إلى مُفكّرتي. أتوقّف حينا وأتأمّله؛ كانت هيأته تَنِمُّ عنِ التّعالي. يتكلّم بسرعة، وأحيانا بخفوت. يقرأ "شِعره" بانفعال واضِح وكأنّه يتشاجر مع العالم، وهو يهزّ يده اليسرى، كما لو يهشّ بها ذبابا غير مرئي يحومُ بديوانه الجَريح. مظهرُه يوحي بحصافَةٍ متبجِّحة. لا أدري لِمَ تَخيّلتُه، وأنا أنظر إلى عنوان ديوانه المكتوب بخط أحمر، لا أدري لِمَ تخيّلتُهُ، لَوْ صَعَدَ يَوما إلى القَمَر، كيف سَيُبرهِن للعلماء على انعدامِ الجاذبيّة في القَمَر بِحضورِها في شِعْرِه! سيقول لهم إنّ شعره سرق الجاذبيّة مِن القَمَر! سيبرهن لهم على أنّ جمجمتَه هي الوحيدة، فوق هذه الأرض، التي تمتلك حجما مناسِبا كمقياس مِعياريّ للذكاء!
4
وبينما هو ينفض عقِب سيجارته الرّابعة، توقّف لسانه عن لَوكِ الهَذر، ونظَر مليّا إلى مُفكرتي التي امتلأت بَعض صفحاتها، وقال:
ـــ أراك منشغلا بالكتابة، بينما أتحدّث..
وأضاف، وبانفعال هذه المرّة:
ـــ إنّي أحدّثك.. ماذا تكتب بحق الشيطان؟
ودون أن ألتفت إليه قلت:
ـــ أكتُبُك.
ـــ كيف؟
ـــ كتبت عنك قصّة. أكملتُها للتّوّ.
ـــ جميل..
وشرَعْتُ أقرأ لهُ، مُقَلِّدا طريقته في الإلقاء، أقرأ بعمق، مُمْعِنا في القِراءة. كنتُ أقرأ له القصة، هذه القصّة.
مجلة فن السرد| محاكاة
إرسال تعليق