"الكلمة" للقاص والناقد المغربي عبد الرحيم التدلاوي
الكلمة التي سيلقيها أمام الجمهور الغفير..
الكلمة التي سهر ليالي لإنجازها...
الكلمة التي قضى الطريق كلها يرددها ليحفظها...
الكلمة التي كتبها على الورق ليلقيها بفصاحة...
كان قد وضعها في جيب سترته الجديدة ذات الألوان الجذابة، حتى يتمكن من خلق انطباع جيد لدى الحضور.
بحث عنها طويلا؛ كان يشعر بالحرج و هو ينقل يديه من جيب لآخر.
تذكر، الآن، أنه لا يرتدي سترته الجديدة، و لكن، فقط، منامة حال لونها؛ لكثرة استعمالها. تنبه، اللحظة، أنه ليس أمام جمهور متعطش لسماع كلمته الفصل، بل إنه مازال فوق سريره يتمطى، لم يبرحه. حتى أن الورقة البيضاء المشبعة بمشاعر الحزن، يراها قابعة ببرودة فوق مكتبه المزدحم بالكتب و الأوراق، و المجلات، بفوضى منعشة للحيرة، و أن قلمه لم يشبع نهم الكتابة؛ إنه لم يلامس، مجرد لمس، الورقة المضطجعة بالقرب منه بإغراء، يكاد الإحباط يداهمها و يداهمه.
نظر إلى كلمته المعلقة بأستار الغيب، لم يتحرك، لم يشتغل كعادته، و كأن برودة اعترته فسكنت عروقه فأخمدت لهيب دمه، ظل صامتا، هو الآخر، و كأنه لا يريد للحظة الصمت المهيمنة على المكان أن تفقد بريق متعتها، أو كأنه عابد متبتل، لا يريد أن يخدش قدسيتها.
إذن، هو لم يذهب إلى القاعة، لم يقف فوق المنصة، لم يمسك بالميكروفون كما يفعل الخطباء المفوهون، لم يكتب الكلمة المقدسة. سترته الجديدة مازالت معلقة على المشجب تنتظره بلهفة، بدت له، للحظة، كعلامة استفهام محيرة.
سينهض، الآن، لتدوين كلمته المعشوقة، سيمنحها عبق روحه، و يفرغ فيها صفاء مشاعره و خلاصة أفكاره، سيحدث بها زلزالا عاصفا في تلك القاعة الفسيحة، و ستتحدث عنها الصحف لفترة طويلة. ستكون حدث السنة و لا شك.
نهض بكل الحماس الممكن؛ و صدى الحلم يراقص أعماقه، و اتجه صوب المكتب بهمة و نشاط؛ و كانت الأفكار قد انسجمت في رأسه، و صار أمر صوغها قضية لحظة، فقط. لكن، مهلا، ماذا يوجد قرب الباب؟ سار باتجاهه، وجد جريدته اليومية بانتظاره، التقطها، و جلس إلى مكتبه ليتفحصها، يطالعها بتمعن، قبل تحبير كلمته الفصل.
و هو يقلب الصفحات، لفت انتباهه مقال صغير، مصحوب بصورة واضحة المعالم، و عنوان بارز...
لم يقرأ المقال، بل شدته الصورة و العنوان، بقي للحظات خارج إرادة وعيه، فقد سلبته الصورة الإرادة، و سحره العنوان، فامتصا نشاطه الذي شعر به قبلا.
كان العنوان: فضيحة!
و كانت الصورة له، تظهره و هو فوق منصة الخطابة مترنحا يسيل الدم منه و قد أحاطت به الكراسي الفارغة من كل الجهات، و كأنها تسعى إلى شل حركته.
أحس و كأن سطل ماء بارد صب على الجذوة المشتعلة فيه فانطفأت بشكل سريع.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق