فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة مجلة العربي I أحمد شرقي I المغرب

 
مجلة فن السرد



كرسيّ الاعتراف، القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة مجلة العربي الكويتية العدد 709


      حين قصدت يوسف، لم أكن أتوقع أن المرآة ستعاندني، وتعكس لي نفس الوجوه، للأسبوع الرابع تواليا.
في نفس الموعد تقريبا، دون أن نخطط لذلك ولو مرة واحدة، يكون الكلام في الرياضة والسياسة وغيرها، دون أن نعرف حتى أسماء بعضنا، أنا شخصيا كنت أستعمل في الحديث إذا اضطررت لذلك عبارات "سيدي" "يا أستاذ"..وما جاور، في حين كان يوسف يعرف أسماءنا حق المعرفة، بل وله قدْرٌ لا يُستهان به من المعلومات عن كل واحد منا، لكنه لم يبح أبدا باسم واحد، ولو سهوا.
بخطى متثاقلة توجهت إلى الكرسي الثابت الذي يبتسم في وجهي بخبث، فقدِ اعتاد بمجرد جلوسي أن يحكم قبضته علي حتى يأذن له سيده بإطلاق سراحي.
كان دوري قد حان، بعدما غادر رجل خمسيني  تُغريه مواضيع السياسة، لم أنخرط في ثرثرته قط.
يرتفع صدري وينخفض مُآزرا دقات قلبي المتسارعة، تسري في بدني رعشة قبل أن أضع رأسي بين يدي يوسف، مستعدا لصداع المقص والاستجواب معا، فشرع في قص شعري وتصفيفه بشغف استشعرته من خلال تركيزه وتموجاته، باديا كمصور فوتوغرافي يلتقط لنفس المشهد صورا من زوايا مختلفة.
لم ينس - كالعادة- طرح أسئلة عن أحوال الدراسة، والعائلة..وتكون  أنت مضطرا لإجابته، فإذا لم تفعل أو حاولت مراوغته، من الممكن أن يُوسوس له شيطانه محرّضا إياه على الانتقام منك، وعِوض أن تخرج من عنده في شكلك المألوف، ستخرج برأس لم تتخيل رؤيتَك به، فهو سيد الموقف الآن، هو الآمر والناهي، له أن يبرز أذنيك بشكل مبالغ فيه يجعلك أضحوكة الفضوليين أينما حللت، كما له أن يغير مظهر وجهك بجرة واحدة لآلة من آلاته، تأكل من شعرك ما يفوق الحدود المسموح بها.. تساورني دائما هذه الأفكار.
كما أشكك في أمر مهنة هذا الرجل الحقيقية، قلت في نفسي أكثر من مرة إنه صحفي مخضرم، سيما عندما يستدرج الزبناء بأسئلة ذكية ومحددة حتى يفرغوا ما برؤوسهم من معلومات عن الحي وعن الأحوال الشخصية، فهو لا يكتفي بما على الرأس من شعر، بل يُجَرّد الرؤوس من ظاهرها وباطنها، أحيانا يذكرني بحلاق اشبيلية 'فيجارو' متعدد المواهب.
"ما الجديد؟"، هكذا انطلق يوسف هذه المرة، بعد أن تطلع إلى الملامح المنتظِرة عبر المرآة الحائطية أمامه، والناقلة لزبونين اثنين، الأول ببذلة سوداء وحقيبة ترافقه منذ الأسبوع الأول، يبدو رسميا، رجّحْتُ فرضية اشتغاله كموظف في إحدى الإدارات العمومية، والثاني اشتعل رأسه شيبا، وملأت الأيام تفاصيل وجهه بالصرامة والقسوة بما يكفي، ربما قائد عسكري متقاعد، المهم أن رواد هذا المحل ممن أصادفهم أسبوعيا مثلي لا يغيّرون الحلاّق، ربما أنا أتجاوز سني - سبعة عشر سنة - بعقود، لأن أقراني في الحي والثانوية لا يهنأ لهم بال إلا عند تبديل الحلاق في كل مرة !
جاهدت صمتي بعد السؤال المعلوم الموجه لي، وألمّ بي ضيق رهيب، فالسؤال سهل ممتنع، من أين سأبدأ؟ ولست ممن يستمتعون بحكي أسرارهم أصلا، والأصعب، أن هذا الأسبوع لم يشهد تنظيم أي مباراة رياضية مهمة، أستغلها في ملء الفراغ، لم يجد لساني سوى عبارة ' الجو غائم في عز الصيف !'.
رد علي القائد بتحسر: "إنها علامات الساعة يا ولدي"، فقاطعه الموظف المُفترَض بنوع من الغضب: "الموضوع علْمِي سيدي، والتلوث يلعب دوره في مثل هذه الأمور"، ليتدخل يوسف ملطّفا الأجواء: "الجو غائم لكن له حلاوته، أراه رومانسيا رغم أن الكثيرين يرونه حزينا، المهم أن تكون القلوب صافية"، وأردف تدخله بضحكة لطيفة، مُنهيا معها إجراء لمساته الأخيرة على رأسي. 

مجلة فن السرد| محاكاة 




عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد