"عطش" القصة الفائزة بالمرتبة الرابعة في مسابقة فن السرد


مجلة فن السرد


القصة الفائزة بالمرتبة الرابعة في مسابقة فن السرد
"عطش" للقاصة التونسية أمينة الزاوي
#_أرشيف المسابقة 


استبد به ظمأ شديد .. جرى في حلقه مثل الحميم .. جف ريقه .. تخبط في السرير طويلا.. رمى بالوسادة على الأرض .. توجه مهرولا نحو دورة المياه ليغتسل علّ الماء البارد يبعث بعضا من الانتعاش في جسده .. ارتمى في تهالك تحت الصنبور .. حين فتحه بتلهف ، لم تنزل منه سوى بعض قطرات أججت حاجته للماء .. ضرب بقبضة يده الحائط سخطا .. تفاقم الألم في داخله .. عادت تركض في رأسه مجددا .. يكاد يشعر بوقع قدميها الصغيرتين  .. 
تلك الطفلة الباكية التي عبثا حاولت استجماع أعضاء أمها المبعثرة بين جثث الهالكين ، مازالت تعدو هربا من المجزرة.. كان يجب أن تبتعد عن بشاعة المشهد، سيل الدماء ، الروائح الكريهة ، وجع الفقد و سطوة الخوف . ركضت طويلا دون هدف. خائرة القوى ،  سرعان ما تثاقلت خطواتها . تعثرت ثم سقطت على الأرض . قطرات شحيحة من الماء تتساقط على جسدها تسري فوقه ببطء تستلذ بها و تطلب المزيد قبل أن تتهاوى فتبتلعها تلك الصحراء القاحلة . تشعر بالقحط يجتاح جسدها مجددا. تتوسل إليه نظراتها البريئة ، تستعطفه ، تستجير به و تلح في سؤالها أكثر فأكثر  ..
يجب أن يرفع عنها هول ما تشعر به . جسده شبه متيبس من فرط الحرارة ، تحامل على نفسه.  رغم أنه كان عاجزا عن مواصلة الكتابة التي انقطع عنها منذ زمن ، جلس إلى حاسوبه . بدأت أصابعه تنقر لوحة المفاتيح  بحركات متسارعة .. 
شي من نور الأمل زرع الاصرار في قلبها مجددا . لم ترضخ للضعف يشل حركة جسدها النحيل المنهك . لم تمنعها الدموع التي تنهمر بغزارة على وجنتيها من الوقوف بعزيمة صلبة . 
سرعان ما كبرت الصغيرة في مخيلته عابسة عطشى .. كان يجب أن يجد سببا يروي عطشها، يسلم جفنيها لنوم عميق و يضعها بين أيد أمينة .. لكن ركود مخيلة الكاتب- ذلك الوحش الذي صادر موهبته- منعه من ذلك مجددا .. لم يكن يدري كيف يجعل وجهها ينضح ببهجة الطفولة . كان يود أن يرسم على شفتيها ابتسامة معطاءة تهطل غيثا يروي أرض فشله لتزهر نجاحا يستحقه .. 
فجأة قطع تسلسل أفكاره صوت قرع على الباب.. اتخذت الطفلة الملتاعة ركنا مظلما في مخيلته. ابتسم بظفر. لابد أنّ حبيبته عادت مثل كلّ مرة بعد فراق لا يدوم طويلا .. هو يعلم أنها تحبه جدّا و أنها لن تتخلى عنه مطلقا .. كثيرا ما يثير غضبها و تقوم هي باسترضائه في كلّ مرّة . مضى زمن على آخر شجار دار بينهما جعله يشعر بحاجته المفرطة لها . سوف لن يتوانى هذه المرة على التمسك بها . يجب ألاّ يفرط مجددا في امرأة قاومت من أجله مغريات الحياة كثيرا . 
ازداد صوت قرع الباب عنفا . هرع إليه مسرعا . سرعان ما طالعه وجه ساعي البريد الذي سلمه ظرفا مغلقا ثمّ غادر . تهللت أساريره. لابد أن البريد يحمل في جوفه خبر مفرح . لطالما حدثته نفسه أنّ مراسلاته المكثفة لدور النشر، الصحف و المجلات سوف تحظى بالقبول يوما ما. أثمر الأمل الذي سرى في روحه يقينا أنه سوف يصبح ثريا و حينها سوف يتمكن حتما من تحدي الأزمة المالية التي يمر بها و استعادة حبيبته أيضا. 
جلس على الأريكة يرتب أحلامه ..  بما يتبقى له من المال الوفير الذي سوف يتقاضاه و يدخر نصفه على مرّ السنين، قد يحفر بئرا في صحراء مخيلته لتنعم به تلك الطفلة و عشيرتها التي أوشكت حرب البقاء أن تفنيها .. 
 حين فتح الظرف ، تبين له أنّ تنبيه من الشركة الوطنية لاستغلال المياه ينص بحتمية رفع العداد إن لم يقم باستخلاص الديون المتخلدة في ذمته في الآجال المحددة  .


شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث